لا أعتقد أن هناك من يختلف معي من شعوب الخليج على مختلف مستويات علاقاتها مع قياداتها في أن شيئا من القلق يعتري هذه العلاقة وخصوصا في طبقة المثقفين والسياسيين، لأن بما كانت توزعه الدول النفطية من مكرمات وإعطاء رواتب مجزية وتوزيع مساكن مناسبة لهم من دون مقابل في بعض هذه البلدان... كانت قادرة لمرحلة طويلة على إنهاء مظاهر القلق.
صحيح أن تلك الأنظمة ذات الإمكانات النفطية الكبيرة مازالت العلاقة بينها وبين شعوبها طيبة ولا يشعر أي طرف منهما بالحاجة إلى المواجهة، وصحيح أن المواطن في تلك البلدان ليس لديه شعور بالتفرقة بين طبقات المواطنين والأطياف المختلفة فيها، وتختلف عن البعض الآخر الذي يشعر فيه المواطن بأن هناك وظائف محظورة للعمل فيها حتى بين أبناء الطيف الواحد من خلال نظرة إثنية وطبقية وأسرية مقيتة تجعل مواطنيه يعيشون في أجواء من القهر والإحساس بالظلم وخصوصا أن هذا البعض يعيش أوضاعا معيشية صعبة، ما يساعد أكثر على خلق رغبة في المواجهة بين الطرفين، وبالتالي تظل حال الترقب سيدة الموقف بشكل مستمر.
وصحيح أن الشعور بالقلق لدى شعوب بعض دول المنطقة بدأ يتفاقم - لإدراكها أن الحكومات وراء التخلف الموجود والتهاون في وضع آليات التقدم والعمل الجاد لتطوير مؤسسات البلد وإمكاناته الاقتصادية ما فرض عليها هذا التخلف والفقر ومع التفاوت الكبير بين أوضاع شعوب الخليج - فإن هناك قاسما مشتركا هو القلق بشأن المستقبل، لأن معظم الناس يعيشون حياة هامشية من غير دولة مؤسساتية ومشاركة فعلية في الحكم، وفرض عليها أن تعيش لتأكل ولا تأكل لتعيش ومن ثم تشارك في توجيه الدولة، لأن القضية قضية المستقبل. فهذه الشعوب وخصوصا طبقة المثقفين التي بدأت تتسع رقعتها على خريطة هذه البلدان دفعتها إمكاناتها النفطية وثرواتها إلى التوسع في مجال التعليم والبعثات ما خلق شريحة واسعة من المتعلمين والمثقفين والأكاديميين الذين يحملهم وعيهم إلى الخوف من المستقبل، لإدراكهم أن الولايات المتحدة استفردت بالعالم وتريد أن تتحكم فيه وخصوصا في الدول العربية بحسب هواها. ومن هنا فإن هذه الدول أخافها مشروع الإصلاح الأميركي للشرق الأوسط الكبير الذي قررت الولايات المتحدة فرضه عليها وهو يرتكز على ثلاثة محاور للإصلاح والمشاركة بتشجيع الديمقراطية والحكم الصالح وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية. هذا المشروع الأميركي الذي ظاهره الرحمة والله وحده أعلم بباطنه مازال مجهول الهوية، فنظام رأسمالي جائر يقف مع الفاشيين الإسرائيليين ويستخدم حق النقض مع أكثر القضايا الإنسانية إلحاحا لمنع إدانة «إسرائيل» لن يكون محل ثقة الشعوب العربية مهما كانت مغرياته وإن صارت الدول العربية مضطرة في النهاية للتسليم له.
والتمرد الأخير الذي تمثل في رفض البعض للمشروع الأميركي يأتي لا من منطلق الخوف من أن يتضمن بعض التنازلات الأثقل بل لأن في المشروع تلميحا بالمشاركة الشعبية، لهذا فإن عددا من الأنظمة العربية ذات الثقل شاركت في صوغ مشروع إصلاحي محلي، ومن بين بنوده إصلاح الجامعة العربية وكأن العطار قادر على علاج ما أفسده الدهر العربي وبأيدي الحكومات نفسها.
ولأن فرض المشروع يأتي من الأطلسي فإن اجتماع وزراء الخارجية التمهيدي لاجتماع القمة في تونس كشف أن المشاركين فيه حاولوا إفشاله وجاء الإفشال الحقيقي من قبل الدولة المضيفة (تونس) التي أعلنت التأجيل من دون مقدمات أو تشاور.
المشروع الأميركي جاء يجمع الشرق الأوسط من أول المغرب إلى آخر أفغانستان بكل تناقضاته وترامي أطرافه ليتمكن السرطان الإسرائيلي من نخر جذور هذه البلدان. فهو يأتي خدمة للصهيونية من جهة وليفوت على فرنسا وألمانيا اللتين ربما تقدمتا بمبادرة للشراكة «الأورومتوسطية» في برشلونة قبل بضع سنوات بعد أن تشاورت مع دول المنطقة ولاقت قبولا من معظم هذه الدول بل وحققت خطوات إيجابية، وخصوصا أن المشروع لم يكن يتحدث عن فرض عناوين محددة من إصلاح في الأنظمة وغيره ما جعله أكثر قبولا لديهم، لكن فكرة المشروع الأميركي تنطلق من رغبة الولايات المتحدة في نسف المشروع الأوروبي، وحتى يصبح المشروع الأميركي أكثر قبولا لدول الشرق الأوسط عندما بدأت الدبلوماسية الأميركية أخيرا من التحرك لتسويق المشروع الذي «ظاهره الرحمة وباطنه العذاب». وخرج للتبشير به من خلال الخطابات كل من باول ورامسفيلد وكوندليزا رايس، وكذلك من خلال جولة واسعة يقوم بها مساعد وزير الخارجية الأميركي للشئون السياسية مارك غروسمان لتشمل كلا من الأردن ومصر والمغرب والبحرين وتركيا في محاولة لتحريك المشروع وحشد التأييد له حسبما جاء في صحيفة «النور» السورية التي ذكرت أن أنباء راجت عن إمكان دعوة ملوك الأردن والمغرب والبحرين إلى اجتماع الدول الثماني.
المهم حتى يصبح المشروع الأميركي مستساغا لدى الحكومات العربية بدأت اللهجة الأميركية تتغير وخصوصا من خلال الحديث في مشاركة الشعوب، إذ بدأ المبشرون به يعلنون أن أميركا لن تفرض الديمقراطية عليها وتترك هذا الأمر حسب أمزجتها، ما يؤكد صحة ما كان يراهن الكثير من العقلاء والمثقفين عليه أن الولايات المتحدة لا يُعوّل عليها ولا يمكن الاعتماد على دعمها في المشروع الإصلاحي إلا بقدر مصلحتها هي، ولابد من اتخاذ منهج متعقل ومعتدل في التفاهم مع الحكومات، وبوجه خاص مع القيادة الإصلاحية الجديدة في البحرين برئاسة جلالة الملك في توسيع هامش الديمقراطية من خلال القناعة المتبادلة ومن خلال جعل القيادة الجديدة تدرك أن المطلوب هو «الخد» من دون «البرطم»، فعملية التصعيد والتجييش بتحويل البلاد إلى ساحة احتجاجات ومظاهرات يومية لن تصب لصالح الشعوب وخصوصا أن الأميركان رفعوا قناع الديمقراطية التي اختفوا خلفه في المرحلة السابقة بأنهم غير جادين في فرض الديمقراطية. وفي اعتقادي أن الدول التي لم تحذو حذو من مارسوا الضغوط على الراديكاليين الإسلاميين في المنطقة سيأتي دورها هي الأخرى وخصوصا أنه «باين ما يبّون إيرسّونه على بر» ظنا منهم أن الجو العالمي والإقليمي يصب لصالحهم لأنهم كما يبدو يدرسون التاريخ بالمقلوب دون أن يدركوا كيفية التوازنات والتحاور واللغة التي توصل إلى الحصول على مزيد من المكاسب.
إن بعض الممارسات التي تحدث تكشف أن هناك إصرارا واضحا لدى البعض الذين يردحون بمناسبة وغير مناسبة من كل الأطياف ليبرزوا أنفسهم وكأنهم مسيطرون على الساحة، بينما هم بأفعالهم يدفعون باتجاه دعم المراهنين على تراجع القيادة الإصلاحية عن الاستمرار في تحقيق وعودها خوفا على الاستقرار وليس لعدم رغبتها في المضي قُدُما في مشروعها الإصلاحي.
ومن هنا فإن عددا من الأعضاء المعتدلين في عدد من الجمعيات بدأ يعي أن التشدد لن يصب في صالح المواطن البحريني بقدر ما يضره فبدأوا في تقديم استقالاتهم خصوصا أنهم وجدوا أنفسهم مهمشين، وأن القرارات تتخذ على مكاتب بعيدة عن أنظارهم. وكان لابد أن يصل الوضع إلى هذا المستوى وكم يتمنى المرء ألا تنهار هذه الجمعيات وتعيد النظر في استراتيجيتها، وتدرك أن البحرين دولة تعتمد في تسيير اقتصادها على دعم دول الخليج مهما طورت من اقتصادياتها التي تخلفت نتيجة عقود الفساد المالي والإداري السابقة. غير أن الذي يجب تأكيده أن مساحة المعتدلين بدأت تتسع، وأن على الحكومات ألا تستغل التراجع الأميركي فتتراجع عن إصلاحاتها التي بدأتها، وأن تواصل مسيرة الانفتاح والإصلاح والديمقراطية، فالشعوب الخليجية ما عادت قادرة على تحمل المزيد، حتى الدول القادرة حتى الآن على تسيير أوضاع مواطنيها بشكل جيد، إن هذا الوضع سيتغير. وإن كل هذه البلدان لن تستريح وتأمن الرياح المفاجئة إن لم تضع لها دساتير تعاقدية تبين حقوق وواجبات المواطن والدولة معا، لأن اتساع رقعة العلم والمتعلمين وعملية العولمة لن تترك مجالا للشريحة الوطنية الجديدة أن تقبل «بالتصبيرة»، وإن الاستقرار السياسي سيهتز إن لم تتعجل بتوسيع هامش الحرية والديمقراطية والإصلاحات الجذرية حتى ولو كانت الشعوب ساكنة تعيش مرحلة تأمل، ومادامت أوضاعها وإمكاناتها الاقتصادية جيدة فعليها أن تصحح أوضاع المواطنين بشكل قانوني ومن خلال دستور واضح، فما عاد المواطن الخليجي بمعزل عما يدور في العالم، والغذاء وحده لم يعد يشبع الشعب الخليجي بل هو بحاجة إلى غذاء روحي اسمه الحرية والديمقراطية والإحساس بأنه مواطن له شأنه ومشاركته في الحكم، فلم يعد ينحصر تفكيره في نفسه ويومه فحسب بل صار يفكر في غده ومستقبل أولاده من بعده، ولن يستريح إلا بحصوله على دستور يحميه ويحمي أبناءه والأجيال المقبلة. وعلى كلا الطرفين، شعوبا وقيادات، أن يعيا أن الإصلاح الداخلي خير وأبرك من المشروع الإصلاحي الأميركي الذي كان نموذجه واضحا للعيان بعد غزو الأميركان للعراق
العدد 581 - الخميس 08 أبريل 2004م الموافق 17 صفر 1425هـ