العدد 581 - الخميس 08 أبريل 2004م الموافق 17 صفر 1425هـ

خصوصية الفلسفة الإسلامية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عانى المفكرون المسلمون القدامى كثيرا من مناهج البحث الفلسفي. فالمباحث الفلسفية دائما تحتاج إلى أدوات تحليل ومعدات لتركيب النسق المعرفي وتحويله إلى نظام متكامل له بداية ونهاية.

ومن هنا تبدأ أزمة الفيلسوف المسلم. فالبداية والنهاية عنده غامضة في غالبية الحالات. فسؤال البداية مشكلة وبالتالي الجواب عنه. كذلك سؤال النهاية مشكلة أخرى وبالتالي الجواب. فالمسلم المؤمن لا يستطيع الجزم في هذه الكليات ولا يستطيع أيضا بلورة جواب لا يتناسب مع الشريعة. وبسبب أزمة العلاقة بين الشريعة والفلسفة تكونت سلسلة مراتب فكرية تميز بين فلسفة الفقه وفقه الفلسفة. فالأولى كانت أقرب إلى منهاج التفكير الإسلامي بينما الثانية كانت تبتعد نسبيا وتقترب نسبيا بحسب موقع الفيلسوف/ المفكر.

معضلة الصلة بين الشريعة والفلسفة كانت محط الاختلاف بين الفقيه المسلم والفيلسوف المسلم. وفي مساحة تلك المحطة يكمن معظم النقاش بين الطرفين. فالفقيه المسلم هو في النهاية فيلسوف كذلك الفيلسوف المسلم كان يلجأ إلى الفقه ويستخدم أدواته كمنهج للتفكير للاقتراب أو المقاربة بين الشريعة والفلسفة.

وبين هذا وذاك تقع مأساة الفيلسوف المسلم، وهي مأساة في النهاية جميلة لأنها اعطت للفلسفة الإسلامية مذاقها الخاص الذي تميزت به عن مختلف الفلسفات.

كانت مهمة الفيلسوف المسلم (والفقيه) الدفاع عن التوحيد وبالتالي كان شغل الفقيه هو تنبيه الفيلسوف إلى هذه المعضلة وهي تتمثل في الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولا شبيه له.

في هذا السياق لم تكن هناك مشكلة بين الفيلسوف والفقيه على مسألة الواحد الذي لا يتكاثر. المشكلة كانت في مسألة التكاثر نفسها. فاذا كانت الواحد لم يلد ولم يولد فمن أين جاء العدد اذا، وكيف تولدت الموجودات وأين هو مصدرها؟

يبدأ الاختلاف بين الفقيه والفيلسوف على ما قبل الواحد وما بعده، أي على العدم في الجانب الأول والكثرة (العدد) في الجانب الثاني.

وعلى هذا الاختلاف تعددت الأجوبة وبدأت الفلسفة الإسلامية (الفقه الإسلامي) تشق طريقها المستقل لتؤسس مناهج فلسفية (فقهية) لا صلة لها بكل تلك الترجمات التي استحدثت ونقلت إلى العربية في الشام وبغداد والاندلس والقاهرة وغيرها من عواصم ومراكز ومعاهد تعليم وتدريس.

ومن تلك الأجوبة تعددت الأسئلة. مثلا هل العدم شيء أم لا؟ فاذا العدم شيء اذا هناك من يوازي الوجود؟ وقبل الوجود ماذا كان في العالم؟ الفراغ وما تعريف الفراغ؟ اللاوجود، وماذا يعني اللاوجود ومَنْ وجده؟

ومن أسئلة العدم والفراغ واللاوجود انتقل الفيلسوف (الفقيه) إلى العدد (الكثرة). من أين جاءت المعدودات، وكيف تكونت وما مصدرها؟

هذه الأسئلة المقفلة انتجت بداية أجوبة مقفلة أي اللاجواب. طرحت أسئلة استفسارية (استفزازية) تتحدى العقل والوجدان من دون أجوبة شافية ونهائية. الأجوبة الأولى تركت الأسئلة المقفلة مفتوحة على جواب واحد: الله أعلم.

اذا، وهذه هي خصوصية الفلسفة (الفقه) الإسلامية، هناك علم إلهي أو علم ما فوق البشر، أو علم مطلق لا صلة له بالجزئيات. اذا وهذا جواب آخر، هناك كليات تأتي من المطلق ويصعب الإجابة عنها أو التعرف إليها بالعلم البشري العقلي لأنه في النهاية علم قاصر لا يدرك سوى الجزئيات.

إحالة الجواب على مسألة «الله أعلم» كان هو المخرج العقلي (الإيماني) لأسئلة تصعب الاجابة النهائية عنها. فمن يدري ماذا كان قبل (البداية) ومن يدري ماذا سيكون بعد (النهاية). فالفلاسفة مثل الفقهاء تركوا الكثير من الأجوبة معلقة أو مفتوحة على الزمن ولكنهم اتفقوا في غالبيتهم على مسألة واضحة وهي: هناك بداية وهناك نهاية، أما كيف بدأت وكيف ستنتهي فهذا من علم الله وليس من علم البشر.

في هذا الجانب الإنساني تميزت الفلسفة (الفقه) الإسلامية فهي تتوقف حين تبدأ الأسئلة الكلية التي تتناول البداية والنهاية وهي أيضا تستمر اذا طالت الأجوبة البدايات والنهايات. فحين يبدأ التشكيك بالواحد والحطّ من امكاناته وقدراته وطاقاته ووظائفه يعاود الفيلسوف (الفقيه) المسلم مهمته وهي الدفاع عن وحدة الواحد (لا شريك له) وعن الاستطاعة (القدرة التدخلية) وعن أحادية الواحد (لا إله إلا الله). فالدفاع عن الذات الإلهية (الصانع) كانت أحد أهم منجزات الفلسفة (الفقه) الإسلامية لضمان وحدة الخالق، وانه هو (لا غيره) مصدر كل الموجودات بخيرها وشرها. فهو يهب الحياة ويقبضها. فالحياة حق والموت حق وهما من مصدر واحد لا من مصدرين أو ثلاثة. كذلك النور والظلمة فهما من خالق (صانع) واحد لا من خالقين.

منهجية التفكير هذه كانت السمة الخاصة (روحها المحركة) التي طبعت المدارس الفلسفية (الفقهية) المسلمة. ونجد هذه السمة حتى في تيار فقهاء الفلسفة واتباعه. ونجد هذه السمة أيضا عند أهل التصوف (والصوفية) وأيضا نجدها عند ما يسمى بالتيار العقلاني (العلمي) في الإسلام. ويستثنى من هذا الاجماع تيار الملحدين والملاحدة (الرازي الفيلسوف وابن الراوندي مثلا). وخارج هذا التيار كان هناك ما يشبه الاجماع على وحدة الخالق وأن العدم ليس شيئا وأن الكثرة جاءت من «الفيض» الإلهي أي ان الواحد فاض فصدرت عنه ومنه كل الاعداد والموجودات.

مسألة الواحد (الأحد، لا شريك له ولا شبيه، ولم يلد ولم يولد) أساسية في الفقه (الفلسفة) الإسلامي وهي شكلت على مدى السنوات خاصية استثنائية في التفكير الفلسفي (الفقهي) الإسلامي.

لذلك فالحديث عن أزمة في الفكر الفلسفي في تاريخ الإسلام ليس صحيحا، لأن جوهر الفلسفة الإسلامية يكمن في الفقه. فالفقه (الفقيه) هو الفلسفة الخاصة بالاسلام وكل ما عداه يدور في فلكه ولا يخرج عليه إلا في حالات تيار الملحدين.

وخارج تيار الملحدين (وهو تيار بليد فكريا) وهو بالمناسبة لم يضف الجديد في تاريخ الفكر الإسلامي، يمكن القول إن الفلسفة الإسلامية في خطها الفقهي انتجت مدارس نظرية وعملية بالغة الأهمية وفائقة الذكاء في التعاطي مع الأسئلة الكبرى، وهذا هو سر بقاء هذه المدارس اذ نجحت في الاستمرار من حيث فشل غيرها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 581 - الخميس 08 أبريل 2004م الموافق 17 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً