نص مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي نشرته صحيفة «الحياة» في عددها الصادر يوم الجمعة 13 فبراير/ شباط الماضي يعتبر فضيحة سياسية - خلقية في مجمل الأمور التي تطرق لها. فالمشروع - الذي قيل إن الولايات المتحدة طرحته على مجموعة الدول الصناعية الثماني، وطلبت مناقشته وإقراره في قمة الدول الثماني التي ستعقد في مدينة سي آيلاند في أميركا في يونيو/ حزيران المقبل - يتضمن سلسلة نواقص في قراءة الوضع العربي - الإسلامي (الشرق الأوسط الكبير). فالتقرير يتحدث عن ثلاثة نواقص توجد في هذا التكتل الهلامي (المطاطي) الممتد من غرب الهند إلى المغرب وهي كما يراها أصحاب المشروع موجزة في نقاط ثلاث: الحرية، المعرفة، وتمكين النساء. وبرأي كتبة التقرير فإن هذه النواقص الثلاثة تنتج «الإرهاب» الذي يهدد الدول الثماني ويعرض مصالحها للخطر في المستقبل القريب. ويخلص التقرير إلى تقديم سلسلة اقتراحات يرى أنها كافية أو على الأقل تساعد على التخفيف من حدة النواقص وتحد من إمكانات نمو ظواهر ارهاب وعنف في المنطقة والدول المطلة عليها.
التقرير مثلا يتحدث عن كتلة هلامية - مطاطية يطلق عليها «الشرق الأوسط الكبير» بعمومية من دون انتباه إلى وجود سلسلة اختلافات في عشرات الأنظمة التي تسيّر هذه الشعوب الممتدة من الهند إلى المغرب. فهذه الدائرة واحدة ولكنها ليست موحدة في درجة تقدمها ونموها، وهي متعددة في نماذجها وأدوات حكمها ووسائل عيشها. وبالتالي من المستحيل جمع هذا القدر من الدول تحت عنوان واحد واسم واحد وأخيرا توصيف هذه الدائرة ضمن نمط واحد من التفكير والحلول.
التقرير أيضا يتحدث عن منطقة، كأنها قطعة عقار تخضع للمقاييس نفسها والمشكلات نفسها. وأيضا يتحدث عنها وكأنها كتلة بشرية معزولة عن العالم وقوانينه وظروفه وتقلباته بينما الحوادث تؤكد أن هذه الدائرة متحركة ومتفاعلة مع تحولات العالم وانقلاباته وصراعاته الدولية ومختلف التداعيات الناجمة عن تلك التغيرات.
مشكلة التقرير أنه يعتمد كثيرا على التعميم من دون تدقيق، ويميل نحو التوصيف وقراءة النتائج وتغييب الأسباب، وأخيرا تجهيل الفاعل وطمس المسئولية. فهذا الانهيار المريع والتداعي على مستوى التنمية الاقتصادية - البشرية ليس نتاج ساعات من الزمن بل نتيجة سنوات وعقود من التراكم السلبي.
وهذا الانهيار لا تتحمل مسئوليته العوامل المحلية فقط بل هناك مجموعة عناصر مركبة أنتجت سياسة تتناسب مع مصالح الدول الكبرى وشركاتها القابضة والمتعددة الجنسية. فالتقرير يتعمد تغييب العامل الدولي (نظام العلاقات الدولية وشروطه) عن خلفية الصورة لتظهر المسألة وكأنها نتاج ثقافات محلية (دين وعادات وتقاليد) لا صلة للفضاءات الدولية في انتاجها أو تشجيعها وتسليحها بعناصر القوة والمال.
(1)
التقرير مثلا يتحدث عن نقص في إنتاج الكتب والترجمات عن لغات أجنبية (1,1 في المئة من الإنتاج العالمي)، ويشير إلى وجود 40 في المئة من الأميين، ويذكر أن 1,6 في المئة فقط يستخدمون الانترنت، وان هناك 53 صحيفة فقط لكل ألف مواطن، وأن الدولة تحتكر الإعلام وتسيطر على الصحف وتوجهها، وأن ربع الخريجين من الجامعات لا يجدون عملا فيضطرون إلى الهجرة إلى بلدان أخرى، وان معظم الشباب يريد السفر إلى الخارج بحثا عن وظيفة أو لقمة رزق، وأن 3,5 في المئة من النساء يشغلن مناصب برلمانية بينما النسبة في افريقيا تصل إلى 8,4 في المئة، وأن دخل الفرد في اليوم لا يزيد على دولارين، وأن مجتمعات «الشرق الأوسط الكبير» تعاني من نسبة نمو سكاني وزيادة في تعداد العاطلين عن العمل، وان مجموع الدخل المحلي لدول «الشرق الأوسط الصغير» أقل من مجموع دورة الإنتاج السنوية لدولة أوروبية واحدة مثل إسبانيا.
وأن، وأن، وأن... والحل كما يذكر التقرير هو في «التنمية البشرية» وزيادة معدل دخل الفرد من دولارين إلى أربعة دولارات، ورفع نسبة النمو من 3 في المئة كما هو الحال الآن إلى 6 في المئة في المستقبل.
وحتى يحقق «الشرق الأوسط الكبير» مثل هذه الزيادة في الدخل وهذا المستوى من النمو يقترح التقرير سلسلة علاجات نظرية مثل دعوته إلى اجراء خطوات إصلاحية تشمل الديمقراطية، وتطوير مجتمع المعرفة، وتوسيع الفرص الاقتصادية، وإطلاق الحرية. والأخيرة تتضمن سلسلة اقتراحات نظرية أخرى من نوع التشجيع على الانتخابات الحرة، وانشاء معاهد تدريب خاصة بالنساء للمشاركة في الحياة السياسية، وإصلاح النظام القانوني (المدني، الجنائي، والتشريعي) والدعوة إلى الشفافية ومكافحة الفساد.
هذا الكلام ليس جديدا إذ نجد ما يشبههه وأحسن منه في الكثير من أدبيات القوى السياسية ومنظمات حقوق الانسان وهيئات المجتمع الأهلي والمؤسسات المدنية والاتحادية والنقابية. وهذا الذي تريد الولايات المتحدة تصديره الآن إلى «الشرق الأوسط الكبير» حاربته واشنطن طوال نصف قرن.
(2)
كتبة التقرير استخدموا معلومات قديمة وخلطوا الدول ببعضها بعضا، وانطلقوا من النتائج وتجاهلوا الأسباب والمسببات، وأخذوا ما يعزز قناعاتهم المسبقة من دون تمييز بين البلدان واختلاف مستوياتها وأساليب حكمها ووسائل عيشها واستثماراتها.
وبسبب تلك المناهج جاءت الأرقام والمعادلات غامضة تعوزها الدقة. فهناك كثير من الإحصاءات قديمة وبعضها يعود إلى عشر سنوات وأحيانا أكثر من عشرين سنة. ولم يقتصر الغموض على الأرقام بل شمل الاستنتاجات التي خضعت بدورها للسياسة وليس للوقائع. فالتقرير يتحدث مثلا عن تشجيع الديمقراطية و«الحكم الصالح» ولا يعرِّف معنى تلك المصطلحات وكيفية تطبيقها منهجيا. والتقرير يتحدث أيضا عن الفجوة الاقتصادية وضرورة توسيع فرص العمل ولكنه لا يطرح سوى بعض الصيغ البديهية من نوع وضع نظام للقروض وتسليف المؤسسات الصغيرة بمبلغ يتراوح بين 400 و500 مليون دولار يقسط على خمس سنوات.
هذا الكلام لا يجدي نفعا في منطقة تملك المليارات من الدولارات مودعة في المصارف الأميركية والأوروبية. فالأموال العامة والخاصة التي تعود ملكيتها لشعوب المنطقة تقدر بأكثر من تريليون و400 مليار دولار. الودائع العربية في الخارج تقدر بأكثر من 1400 مليار من الدولارات والتقرير يتحدث عن قروض تتراوح بين 400 و500 مليون دولار أي أقل من نصف مليار دولار.
كتبة التقرير لا يتحدثون عن الودائع العربية وضرورة التشجيع على عودتها إلى بلدانها وإعادة استثمارها في مشروعات منتجة وقطاعات اقتصادية تتناسب مع حاجات السوق لسد ما يسميه التقرير الفجوة الاقتصادية وتأمين الملايين من فرص العمل للطاقات الشابة أو للكتل المتعلمة التي تقذفها عشرات الجامعات سنويا إلى سوق العمل ولا تجد مجالات محددة للتشغيل فتضطر إلى السفر بحثا عن وظائف.
يتحدث التقرير عن إصلاح نظام التبادل التجاري بين دول الشرق الأوسط نفسها باعتبار أن نسبة التجارة بينها لا تشكل سوى 6 في المئة من تجارتها مع الخارج (أوروبا، أميركا، ودول آسيا). ولكنه لا يتحدث عن الأسباب السياسية - البنيوية التي جعلت التجارة (التبادل) بين الدول العربية (والشرق أوسطية) ضعيفة (وهي التي تنادي بالوحدة والعروبة والتضامن الأخوي) وقوية مع الدول الكبرى التي تدعم «إسرائيل» وعدوانها على العرب والمسلمين.
اعتمد المشروع الاميركي سلسلة أرقام لتبرير سياسة إدارة واشنطن الإصلاحية. فالأرقام الواردة في المشروع تقول مثلا إن ثلث «الشرق الأوسط الكبير» يعتمد على دخل يومي لا يتجاوز الدولارين. هذه الارقام غير صحيحة وكذلك ليست واضحة. فعن أية دولة يتحدث المشروع، وما هي المنطقة التي يقصدها؟ كل الارقام في معظم الدول العربية تشير - باستثناء الصومال - إلى أن ثلث السكان يزيد دخلهم على 730 دولارا في السنة. واذا كان التقرير يقصد ان «الشرق الأوسط الكبير» لا يعني الدول العربية فقط بل يضيف اليها «اسرائيل» وتركيا وايران وباكستان وافغانستان فإن المسألة تصبح اكثر تعقيدا. فهناك حالات متعارضة ومن الصعب جمعها كلها في دائرة اقتصادية واحدة نظرا الى التفاوت الكبير في دخل الفرد بين افغانستان والصومال من جهة وعشرات الدول العربية والمسلمة من جهة اخرى التي يزيد دخل الفرد فيها على تلك الارقام.
التعميم في المشروع الاميركي مشكلة وكذلك غموض هوية المنطقة التي يقصدها. فهل الارقام تشمل كل الدول الواقعة بين غرب الهند وشرق المغرب أم انها تستثني بعض هي الدول العربية والمسلمة؟ وهذا «الثلث» الذي تحدث عنه التقرير أين يقع؟ وما الدول التي يتألف منها؟ فكلمة «الثلث» غامضة وغير واضحة في دلالاتها. فالتقرير يتحدث عن خطة اقتصادية تهدف إلى رفع دخل «ثلث سكان المنطقة» في فترة خمس سنوات من دولارين في اليوم (730 دولارا في السنة) إلى اربعة دولارات في اليوم (1460 دولارا في السنة) من دون ان يشير إلى المناطق واسماء الدول. فهل يقصد التقرير بعض مناطق افغانستان والصومال وموريتانيا واليمن أم انه يقصد كل «الشرق الاوسط الكبير» ومن ضمنه السعودية وقطر والبحرين وايران وتركيا؟
كل الارقام في المنطقة العربية على الاقل تشير إلى أن معدل دخل الفرد في السنة أعلى بكثير في المتوسط من 730 دولارا او 1460 دولارا. والصومال هو البلد العربي الوحيد الذي يبلغ دخل الفرد فيه اقل من 730 دولارا. الى الاستثناء الصومالي (600 دولار في السنة) يمكن اضافة اليمن (820 دولارا) والسودان (ألف دولار) وجيبوتي (1300 دولار). وهو اعلى من المعدل الذي يذكره التقرير.
(3)
يدّعي التقرير أنه يريد تحديث «الشرق الأوسط الكبير» من خلال دعم الديمقراطية وتشجيع الدول على الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، وتعديل نظام الرسوم الجمركية، وإنشاء مناطق تجارة حرة إضافة إلى مناطق رعاية الأعمال. فالتقرير يطرح الحلول العامة التي ذكرت وكتبت ونشرت مرارا في الصحف وتداولتها جامعة الدول العربية وقررت بشأنها سلسلة خطوات وإجراءات لم تنفذ حتى الآن. فالدول العربية مثلا أصدرت سلسلة مشروعات تناولت «السوق العربية المشتركة» في خمسينات القرن الماضي ونادت بضرورة توحيد السوق وإزالة العقبات الجمركية وفتح الأسواق على بعضها وتوحيد العملات قبل سنوات من اللقاءات الأوروبية. والآن وبعد مضي قرابة نصف قرن على الكلام العربي توصلت الدول الأوروبية إلى إنشاء سوقها الموحدة وعملتها الموحدة بينما الدول العربية لاتزال تعيد إنتاج الكلام في وقت تسجل الاقتصادات العربية المزيد من التراكم السلبي.
المشكلة أساسا ليست في الصيغ النظرية وإنما في الإجراءات العملية التي تلاقي صعوبات فعلية في عدم وجود ثقة متبادلة وضغوط دولية وضعف في البنى الأساسية التي تزيد من تراجع الرغبة في مواصلة ما اتفق عليه. فالعجز الإرادي تعززه سلسلة موانع موضوعية لها صلة بالنظام الدولي الذي يقوم على سلسلة ترتيبات عمودية تعترض نشوء أسواق إقليمية تدعم بعضها بعضا لمواجهة التنافس الذي تفرضه مؤسسات ضخمة وعريقة في الخبرة المالية والاستثمار والإنتاج والتصدير والتبادل.
التقرير يتحدث عن الحرية والديمقراطية ويعتمد على دراسة قدمها معهد «فريدوم هاوس» في العام 2003 وتقول إن «إسرائيل» التي تقيم «جدار الفصل العنصري» وتحتل أراضي الآخرين وترفض تطبيق القرارات الدولية هي البلد الوحيد في «الشرق الأوسط» ينتمي إلى لائحة البلدان الحرة بينما صنف أربعة بلدان أخرى بأنها «حرة جزئيا». والحرية في المعهد المذكور لا علاقة لها بالاستقلال والسيادة وإنما في حرية «التعبير عن الرأي والمساءلة». وبهذا المعنى يصبح موضوع احتلال فلسطين لا علاقة له بـ «الحرية»، كذلك احتلال العراق وأفغانستان أو غيرهما من بلدان محتلة أو مرشحة للاحتلال. فالحرية هنا تعني الكلام وليس الاحتلال. ولهذا صنفت دراسة المعهد (فريدوم هاوس) دولة مثل «إسرائيل» في لائحة الدول «الحرة» بينما فلسطين المحتلة وحصار الشعب الفلسطيني داخل جدران «التفرقة العنصرية» صنفتها خارج اللائحة لأن دعاة الحرية هناك مجرد مجموعات «إرهابية».
(4)
تقرير «الشرق الأوسط الكبير» يعاني الكثير من الغموض والضبابية في تعيين حدود هذا «الشرق الأوسط». فماذا تعني الكلمات الثلاث «الشرق» و«الأوسط» و«الكبير»؟ وما المقصود بها سياسيا وجغرافيا ودينيا؟ فإذا كان القصد هو تحديد جهة سياسية فالكلمات الثلاث لا تفي بالغرض لأنها تضم جهات متعددة ومتباعدة جغرافيا تمتد من غرب آسيا (الهند) إلى شرق أوروبا وجنوبها. وإذا كان القصد التعبير عن محيط جغرافي (مناخي) فالكلمات الثلاث أيضا قاصرة على احتواء هذا التشتت في عشرات البلدان المتنوعة في ظروفها الطبيعية. وإذا كان القصد هو تحديد جهة قومية أو متجانسة لغويا فالكلمات الثلاث كثيرة ويمكن اختزالها في كلمتين: العالم العربي. وإذا كان المقصود من الكلمات الثلاث التهرب من تحديد هوية دينية للشرق الأوسط الكبير فإن الهدف ليس بعيدا عن الوضوح. فهذا العالم باختصار يشمل معظم الدول المسلمة.
والسؤال: لماذا تجنب التقرير تسمية «العالم الإسلامي» إذا كان المراد هو هذا الجزء المهم من عالم يسوده الإسلام منذ قرابة 15 قرنا؟
ربما يكون القصد هو الابتعاد عن تضمين هوية دينية للشرق الأوسط الكبير حتى لا يتهم كتبة التقرير بالعنصرية أو بالصليبية أو غيرهما من مفردات تحبذ الإدارة الأميركية عدم التورط فيها حتى لا تثور المشاعر وترتفع الانفعالات.
هذا جانب من الصورة. إلا أن الجانب الآخر يشير إلى وجود سياسات أخرى يمكن فهم القصد منها في حال أعيد قراءة التقرير بروح نقدية. فالتقرير ضائع في هذه المسألة ولكنه واضح في تضمين سلسلة بلدان غير عربية إلى ما يسمى بـ «العالم العربي». وهذه البلدان هي باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا. والبلدان المذكورة هي إسلامية كما نعلم ولكن التقرير أراد تضييع هوية الإسلامية أو العربية في سوق عامة يطلق عليها تسمية غير مفهومة حتى يترك لـ «إسرائيل» مجال الانضمام إلى مقاعد الدول الواقعة بين الخطين يمتد الأول من الهند وينتهي الثاني في المغرب.
إذا، ما الجديد في الكلمات الثلاث: الشرق الأوسط الكبير؟ الجديد هو إلغاء مفردات قديمة ترى فيها الولايات المتحدة مصطلحات مزعجة (عرب، إسلام). وكذلك إلغاء أفكار تقوم على فكرة التوحيد (وحدة عربية، وحدة إسلامية، تضامن إقليمي، اتحاد ثنائي أو ثلاثي، مجالس جغرافية تضم سلسلة دول مجاورة). وأهم من ذلك أن مثل تلك المفردات (عرب، عروبة، إسلام، جغرافيا، تاريخ، ولغة) تعني إقفال الحلقة على «إسرائيل» ومنعها من دخول المنطقة من الباب السياسي (التطبيع) والاقتصادي (الطرف الأقوى في المعادلة). فشرط دخول «إسرائيل» دائرة ما يسمى «الشرق الأوسط الكبير» هو إلغاء هوية المنطقة أو شطب الأسماء التي لها صفات أو دلالات أو تشير إلى حقائق ووقائع لا تريد واشنطن تكرارها حتى لا تفشل خطتها الاستراتيجية الكبيرة وهي خطة هجومية لا تقوى دولة مثل «إسرائيل» على حمل مهماتها أو تحمُّل تبعاتها أو تداعياتها.
الرد العربي المتوقع
يتوقع أن تناقش مجموعة «الدول الصناعية الثماني» نص مشروع «الشرق الأوسط الكبير» في مدينة سي آيلاند في الولايات المتحدة في يونيو المقبل.
لم يبقَ من المدة سوى ثلاثة أشهر وعلى الدول والأطراف والجهات أن تدرس مواقفها جيدا قبل اتخاذ خطواتها في هذا المجال. وتوقيت واشنطن شهر يونيو ليس مصادفة فهو يرتبط بأكثر من جانب يحتاجه الرئيس جورج بوش لتبرير سياساته الدولية وتحديدا في منطقة حساسة واستراتيجية يطلق عليها الآن «الشرق الأوسط الكبير». فالرئيس الأميركي قرر موعد يونيو لأن التوقيت يتصادف مع نقطتين: الأولى تجميع القوات المحتلة في العراق في قواعد عسكرية (عشرون قاعدة) وإعادة نشرها على حدود إيران وتركيا وسورية والسعودية والأردن وفي مهابط الطيران. ويترافق التجميع العسكري مع تسليم السلطة إلى مجلس الحكم الانتقالي بعد أن قرر مبعوث الأمم المتحدة ان وضع العراق غير مؤهل لإجراء انتخابات حرة وعامة في مختلف المناطق.
النقطة الثانية: تتعلق بالانتخابات الأميركية. فمن الآن وحتى يونيو تكون ملامح صورة منافس بوش على الانتخابات الرئاسية وضحت وبات الحزب الجمهوري على بيّنة من الأمر. المسألة الانتخابية مهمة في تحركات بوش لأنها ستحدد مستقبل استراتيجيته والفضائح التي رافقت فترة رئاسته وأظهرت الحوادث مدى سلبيتها نظرا للاجماع الدولي المضاد لها وهذا ما صب في صالح منافسه الحزب الديمقراطي.
المشروع إذا ليس حسنة تبرع بها بوش لانعاش اقتصادات ما يسميه «الشرق الأوسط الكبير» بل هو حاجة داخلية أملت عليه التراجع بعد أن دلت المؤشرات على وجود تناقص في شعبيته وسلسلة ارتفاعات في معدلات البطالة والفقر والقرف من هواجسه الأمنية.
الدول العربية حتى الآن لم تتفق على رد مشترك، فهي لم تتسلم رسميا تلك المبادرات والمشروعات حتى تعطي رأيها النهائي بها وفق ما أعلنه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل. وعلى رغم عدم وضوح الرؤية العربية المشتركة فإن هناك ما يشبه الاجماع على رفض الأساليب والوسائل التي اتبعت في أفغانستان والعراق وأعطت نتائج سلبية. فالولايات المتحدة نجحت عسكريا في اسقاط حكومة طالبان ونظام صدام إلا أنها فشلت سياسيا في انتاج بدائل متوازنة (حرة وديمقراطية) تجمع عليها الفئات التي يتكون منها المجتمع الأفغاني (قبلي - جهوي) أو المجتمع العراقي (مذهبي - جهوي).
الفشل في إنتاج دول بديلة يشكل نقطة ضعف في الاستراتيجية الهجومية الأميركية وربما يكون نقطة انطلاق للدول العربية لإعادة النظر في منهج القوة الذي استخدمته واشنطن وأدى إلى تحطيم دولة من دون أن يقوى على انتاج دولة بديلة.
إلى الفشل هناك الفوضى السياسية - الأمنية التي انتشرت في البلدين وهددت استقرار دول الجوار وأشاعت حالات من الانفلات الأمني الذي يعبر عن نفسه بعمليات عسكرية غير مفهومة أحيانا وتثير أسئلة عن الجهات التي تستفيد منها.
حتى الآن لا يمكن للولايات المتحدة أن تفاخر بنجاحها العسكري. فالعبرة في النهاية في النتائج السياسية. والنتائج تشير إلى أن العنف لم يتراجع، وما يسمى بالارهاب لم يتوقف، والفوضى العامة تضغط باتجاه المزيد من التدهور السياسي الذي قد يؤدي إلى انقسامات أهلية ترسم خرائط جديدة لدويلات صغيرة سواء في أفغانستان أو العراق.
الاتجاه العربي العام كما يبدو هو الموافقة على مقترحات الاصلاح ورفض الأساليب المستخدمة في تمريرها أو فرضها من طريق القوة. هذا الاتجاه صحيح ولكنه ليس كافيا للرد على التحديات. فالوضع العربي وصل إلى درجة من الهشاشة السياسية وبات غير قادر على تحمل المزيد من الضغوط. وعلى رغم الموانع ومواقع القوة (والثروة) التي تتمتع بها البلدان العربية تبدو معظم الدول في حيرة من أمرها لا تستطيع التقدم خوفا من المستقبل ولا تستطيع المراوحة في مكانها خوفا من الماضي. هذا الوضع لا تحسد عليه إلا انها لاتزال بإمكانها تجاوز المأزق اذا اتفقت الدول على مسألتين. الأولى: تحصين الممانعة السياسية من خلال عقد المصالحة (التسوية) التاريخية بين الدولة والمجتمع.
والثانية: الاتفاق على المشاركة (الافقية) بين الدول العربية نفسها والبحث عن الوسائل الكفيلة بتوسيع دائرة «الاخوة» و«المصير المشترك» على قواعد عملية لها صلة بحاجات الناس ومتطلباتهم.
مشكلة الدول العربية الممثلة في جامعة الدول أن معظمها لم تتجه نحو اتخاذ قرار المصالحة الداخلية (العمودية) بينها وبين شعبها. وعدم المصالحة الوطنية يعطل امكانات التقدم نحو المصالحة مع العالم. ومشكلة الولايات المتحدة الاساسية انها تدفع الدول العربية نحو التصالح مع «إسرائيل» وتتجاهل أهمية المصالحة الداخلية.
يتوقع أن يزور الرئيس المصري حسني مبارك واشنطن في منتصف ابريل/ نيسان الجاري لمناقشة مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي انتقده ووصفه بأنه من ضمن «الوصفات الجاهزة» لإصلاح المنطقة.
الدول العربية الآن لا خيار أمامها سوى قبول التحدي والتقدم الذاتي (الإرادي) نحو طرح مشروع بديل يحدد خطوات الإصلاح بعيدا عن محاولات «الاستذة» والإملاءات التي تطرحها واشنطن أو مجموعة الاتحاد الأوروربي. فالإصلاح لا يأتي بالقوة وإنما بالفعل وعلى الدول العربية أن تبادر إلى طرح تصورها للوسائل التي تراها مناسبة للتطور والتحديث.
لاشك في أن هناك الكثير من النقاط الغامضة في المشروع الأميركي فهو أولا مجرد أفكار هشة اعتمدت مجموعة أرقام قديمة وخاطئة. وهو ثانيا يتضمن سلسلة اقتراحات فوقية خلطت الدول ببعضها من دون تمييز في نسب تفاوت النمو بين دولة وأخرى.
المشروع الأميركي يميل إلى الدكتاتورية في فرض تصوراته وهو أقرب إلى الانقلاب منه إلى التطوير المتدرج. كذلك لا يأخذ المشروع في الاعتبار وجود مصيبة في المنطقة العربية يطلق عليها «دولة إسرائيل» ولا يراعي عشرات الحساسيات التي يجب أن تؤخذ في سياق محاولات فرض الإصلاح بالقوة على منطقة ترى في واشنطن عاصمة الارهاب السياسي ضد الشعوب العربية ومنحازة من دون تفكير ومنطق لسياسات تل أبيب العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والمصالح العربية.
إلى ذلك هناك غموض هوية الدائرة التي يتحدث عنها المشروع لإصلاحها. فالكلمات الثلاث (الشرق الأوسط الكبير) مبهمة وهي غير واضحة في دلالاتها الجغرافية والسياسية.
مسألة الهوية مهمة كذلك الحدود الجغرافية - السياسية لهذا المشروع. وأهمية المسألة تكمن في صلة الأرقام التي يتحدث عنها المشروع بواقع الدول وظروفها وعددها. وهذه من مهمات الدول العربية وليست مهمة أميركية.
المقال نص ورقة قدمت للمناقشة في حلقة «المبادرة الأميركية: التداعيات والموقف منها» التي نظمتها جمعية العمل الوطني الديمقراطي في مركز «جمعية الأطباء البحرينية» في أول ابريل/ نيسان الجاري
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 581 - الخميس 08 أبريل 2004م الموافق 17 صفر 1425هـ