بين آخر مشاهد العنف الوحشي الذي تابعه المشاهدون عبر وسائل الاعلام ومحطات التلفزة العربية والاجنبية، كانت مشاهد السحل لقتلى اميركيين في مدينة الفلوجة العراقية، وقبل مشاهد العنف تلك، كانت مشاهد العنف الدموي الذي ترتب على انفجارات مدريد في مايو/ آذار الماضي، والتي اوقعت مئات من القتلى والجرحى في حادثة تفجير قطارات إسبانية، والحادثتان بما حملتاه من مشاهد مأسوية يجمعهما خيط واحد هو وحشية الذين يرتكبون اعمال عنف تذهب الى البعيد في إهانة الانسان.
غير ان الحادثتين اللتين ينسب القيام بهما الى عرب، لاتقلان وحشية عن اعمال عنف توجه الى العرب والمسلمين سواء في فلسطين أو العراق أو في افغانستان، يرتكبها جنود اسرائيليون واميركيون في اطار الصراعات التي يشهدها عالم اليوم، ولعل الهجمات الاميركية ضد المتظاهرين من المدنيين العراقيين المنضوين في اطار جيش المهدي، إذ قتل وجرح عشرات في يوم واحد وكذلك عملية اغتيال الشيخ احمد ياسين وأخرين من جانب القوات الإسرائيلية في غزة مثال شديد الوضوح على العنف الوحشي الموازي لما حصل في الفلوجة ومدريد.
وبطبيعة الحال، فإن عمليات العنف الوحشي، تشير في الأهم من دلالاتها الى تدهور المستوى الاخلاقي والإنساني للقائمين بها من حيث استهتارهم بانسانية الانسان وكرامة الموتى، وذهابهم في الحقد ابعد من مجرد تحقيق اهداف سياسية، كثيرا ما يكون سبيل تحقيقها قائما على القوة بما فيها من قتل وجرح في صفوف الخصم، غير هوية الخصم وملامحه في غالبية هذه العمليات، ليست واضحة، وغالبا فان هويته وملامحه محاطة بالالتباس الذي قد يكون مقصودا، اضافة الى ان عمليات القتل وترافقها مع السحل على نحو ما حصل في الفلوجة، تجاوزت حدود استعمال القوة في ملامحها الدارجة والمعروفة.
واذا كان من المفهوم وصول الصراع بين «متقاتلين» الى هذا الدرك من الوحشية والدموية امرا لا يمكن تبريره باية صورة كانت، فان من المهم التمييز بين ما يرتكبه افراد او اعضاء في جماعات مصنفة اميركيا واسرائيليا في اطار «جماعات ارهابية»، وقيام جنود نظاميون من القوات الاميركية في العراق وافغانستان والقوات الاسرائيلية في فلسطين باعمال عنف وحشي بحكم الاختلاف الجوهري بين الطرفين، والظروف التي ادت الى قيامهما بما يقومان به من اعمال.
وفي حين يتذرع الافراد واعضاء الجماعات المسلحة بان عملياتهم تستند الى شرعية مقاومة الاحتلال والعدوان الواقع على الامة وبلدانها، وهو امر لا تؤكده بعض أهداف العمليات او محتوياتها، فان القوات الاميركية والاسرائيلية، تتذرع بمحاربة الارهاب تبريرا لما تقوم به، لكن الاهداف ونتائجها، لا تتوافق مع تلك الحرب، والتي لا يتوافر توافق دولي في معناها ومجرياتها، وهي عمليات تتم بواسطة قوات محتلة مهمتها وفقا للقانون والشرعة الدولية حفظ الأمن بما يضمن حفظ ارواح وممتلكات الواقعين تحت الاحتلال، بمعنى ان مهمة الاميركيين في العراق، وكذلك الاسرائيليين في الاراضي الفلسطينية المحتلة حفظ ارواح وممتلكات العراقيين والفلسطينيين وفق القانون الدولي، وليس قتلهم على نحو ما يجري.
ولعله من المهم ايضا ملاحظة بعض ما يحيط باعمال العنف الوحشي التي تتواصل فصولها، وخصوصا لجهة ادانة واستنكار ما يقوم به الافراد واعضاء الجماعات المسلحة من عمليات، وقد ادينت عملية مدريد عالميا وعربيا في المستويين الرسمي والشعبي، كما ادين ما حدث في الفلوجة من تمثيل بجثث القتلى الاميركيين، وامتدت الادانة الى مساجد الفلوجة في خطب يوم الجمعة الماضي، إذ اعتبر «التمثيل بالجثث الذي قام به بعض الجهلة أمر مرفوض، ونحن كرجال دين نستنكره فهو لا يجوز وحرام مهما كانت الاسباب»، وان «ما حصل كان امرا صعبا لا يرتضيه احد».
عمليات العنف الوحشي ايا كان القائمون بها تستحق الادانة، وهو امر لا ينطبق فقط على ما يقوم به افراد واعضاء في جماعات مسلحة، بل ايضا على ما يقوم به جنود نظاميون بينهم اميركيون واسرائيليون، يحتلون بلدانا ويضطهدون شعوبها، ويقومون باعمال لا تقل وحشية عما حدث في مدريد والفلوجة
العدد 580 - الأربعاء 07 أبريل 2004م الموافق 16 صفر 1425هـ