هل يعي السيد مقتدى الصدر خطر مقاومة الاحتلال الاميركي؟ هل يعرف السيد مقتدى الصدر ان الخروج الأميركي من العراق حاليّا هو ليس لصالح الشيعة عموما، وليس لصالحه خصوصا؟ وخصوصا ان والده كان قد اغتيل على يد النظام البعثي السابق. هل يعرف مقتدى الصدر في قرارة ذاته أنه توجد في العراق قوى سياسيّة شيعيّة غيره، من متديّنة وعلمانيّة وحتى مُلحدة، وهذه القوى لا توافقه الرأي؟ وهل يعتبر ان ما رفضه هو ووالده من قبل النظام القديم، من ظلم وجور، هو مقبول لدى الآخرين، إذا أتى من قبله؟ هل يعرف ان أيّ خلل في العراق، خصوصا ما بين الشيعة انفسهم، قد يؤدّي إلى تقسيم العراق؟ وخصوصا ان الاكراد كانوا قد أعدّوا العدّة لأيّ احتمال في هذا الإطار. وهم الذين قد حقّقوا نصرا من خلال ما ورد في الدستور العراقي المؤّقت، خصوصا الشقّ المتعلّق بحق استعمال الفيتو في المستقبل.
هل يعرف مقتدى الصدر أن أجندته تختلف جذريّا وفي العمق مع أجندة متطرّفي النظام السابق، ومع القوات الجهاديّة، الموجودة في العراق، إن كانت عراقيّة، او هي كانت قد دخلت إلى العراق لقتال الكفّار؟ هل يعرف مقتدى الصدر ان شكل النظام السياسي العراقي المستقبلي في العراق قد لا يكون كما يرغب في حال الخروج السريع للاميركيين، هذا في حال بقاء العراق موحّدا؟ هذا لجهة مقتدى الصدر، فماذا عن بول بريمر؟
وبريمر أيضا
هل يعرف بول بريمر ان للقوّة حدود؟ وهل يعرف ان القوّة المطلقة التي تمتلكها اميركا لوحدها في العالم من دون غيرها، قد لا تنفع في ضرب حركة مقتدى الصدر؟ وهل يعرف انه يمكن له استعمال القوّة النسبيّة فقط في الساحة العراقيّة، وخصوصا ان العالم يراقب، وان المشروع الاميركي اتى تحت شعار التحرير ونشر الديمقراطيّة؟ وإلا لكان النووي احد الخيارات. هل يعرف بريمر ان ما يقوم به الآن، من استعمال للقوّة هو الذي سيؤسّس للمرحلة السلميّة المقبلة؟ فإذا كان العنف مرتفعا، كان السلم الآتي مهزوزا ومبنيّا على الحقد والكراهيّة، وخصوصا ان النظرة للقوات الاميركية هي انها قوى احتلال، وليس كما اعتقد بريمر على انها قوات تحرّر. وهذا ما يحصل فعلا في فلسطين مع شارون، الذي يستعمل اقصى درجات العنف، ويمدّ يده من جهة ثانية لتمرير المشروعات المسمومة.
وإذا كان بريمر ناجحا في الحدّ من استعمال القوّة، وأكثر نجاحا بالتهديد باستعمالها لردع، أو إلزام الآخر على الرضوخ، لكن من دون إذلال هذا الآخر امام مؤيّديه. فهو قد يحدّ من عمليّة التصعيد والتصعيد المُضاد. هل يعي بريمر انه كلما ارتفع مستوى استعمال القوّة من قبل قواته، قد يعني هذا الامر مزيدا من الالتفاف حول مقتدى الصدر؟ وقد يؤدّي هذا الامر إلى الوقوع في معضلة التصعيد والتصعيد المُضاد!
إذا، يلتقي الاثنان في مكان. ويفترقان في مكان آخر. أو بالأحرى، تتقاطع مصالحهما في مكان، وتتفارق في أمكنة أخرى. لكن كيف؟
- يريد بريمر الديمقراطيّة. وهذا ما يريده مقتدى الصدر. فالديمقراطيّة، تعطي الشيعة الحكم بطريقة ما. لكن الصدر هو خارج اللعبة. فهو ليس عضوا، او ممثّلا في مجلس الحكم الانتقالي. وإن مستقبل العراق، يُبتّ تقريبا مع آية الله السيستاني، على الاقلّ في البُعد الشيعي. هذا مع العلم ان العلاقة بين السيستاني ووالد مقتدى، لم تكن على ما يُرام، أيّام حكم البعث.
- تتعارض مصلحة الصدر مع بريمر، في ان الاوّل يريد الاسلام والشريعة كطريقة لحكم العراق. ويريد بريمر حكما علمانيّا، وذلك من دون تحييد الدين الاسلامي كاملا. وهذا فعلا ما ذُكر في الدستور الانتقالي. ومن جهة ثانية، يريد آية الله السيستاني، فصل الدين عن الدولة، لكن من دون أن يصدر شيء عن الدولة العلمانيّة يسيء إلى الإسلام بطريقة ما.
- يتّهم بريمر بواسطة القضاء العراقي، مقتدى الصدر بالتخطيط لقتل عبدالمجيد الخوئي بواسطة احد اتباعه المدعو مصطفى اليعقوبي، والصدر ينفي هذه التهمة. أما المرجعيّة الكبرى، فلم نعرف موقفها من هذا الموضوع.
ويبقى السؤال المهمّ: لماذا هذا التحرّك الآن، وبهذه الطريقة؟ وماذا يريد مقتدى الصدر؟
- في 22 اكتوبر/تشرين الأول 2003، سُرّب خبر عن ان الصدر ضالع في عمليّة قتل الخوئي. وأن الاميركيّين سيعتقلون المسئول عن هذا الاغتيال. وبعد عدّة ايام من هذا الخبر، اطلق الصدر عبر خطبة الجمعة خطابا يدعو فيه إلى نبذ العنف. وقام بعد ذلك بتوزيع منشور يقول فيه: «إن الشعب الاميركي هو شعب مُحبّ للسلام، وان الاميركيين حاليا في العراق، هم ضيوف».
- حاليّا، يحاول الصدر إعلان دولته الخاصة. وإعلان جيش المهدي كجيش للعراق الجديد. وهو اراد مدّ سيطرته على الكثير من المدن الشيعيّة المهمّة، فقط لتبيان مدى قدرته على الساحة العراقيّة، ولإرسال الكثير من الرسائل، وفي عدّة اتجاهات.
- حاليّا يريد الصدر إرهاب العدوّ، بعد ان اصبحت لا تنفع معه الوسائل الاخرى. فلماذا هذا التناقض في المواقف، والتذبذب ما بين الترحيب والتبجيل للاميركيّين في العام الماضي، وإعلان نصف الثورة حاليّا؟ إذا لا بد من ان تكون هناك اسباب معيّنة، جعلت الصدر يأخذ هذه المواقف المستجدّة. وقد تندرج هذه الاسباب في البُعدين، الداخلي كما الاقليمي.
هناك تفسيرات وتحليلات كثيرة لما يجري حاليّا، وسنأتي على ذكر البعض منها، فماذا عنها؟
في البُعد الداخلي
1- يشعر الصدر أنّه قد اصبح فعلا مهمّشا على الصعيد السياسي العراقي. وهو غير مؤثّر إطلاقا، في العمليّة السياسية التي تلت الاطاحة بنظام صدّام.
2- لم يُؤخذ رأي الصدر على الصعيد الشيعي في رسم صورة العراق الجديد. وخصوصا ان والده هو من الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا للصمود.
3- وبعد دراسة الوضع بدقّة ودرس الاوضاع الدوليّة، الاميركيّة والاقليميّة. قرّر الصدر البدء بالضربة الوقائيّة. لكن ما هي الظروف التي من الممكن ان يكون قد استغلّها؟
4- الارتباك الاميركي الداخلي، والشك الاميركي الداخلي في صدقيّة الادارة، خصوصا في المجال الاستخباري والمتعلّق بإمكان تجنّب حادثة 11 سبتمبر/ أيلول، فيما لو تصرّفت الادارة بمسئوليّة ووعي وواقعيّة.
5- الارتباك الاميركي العسكري المستمرّ في العراق، وذلك بعد استمرار المقاومة على رغم اعتقال صدّام.
6- قرب الانتخابات الرئاسيّة الاميركيّة، الامر الذي يجعل هذه الادارة اكثر مطواعيّة لإرضاء الصدر. فالادارة وبسبب الحرج الذي وقعت فيه، لا يمكن لها ان تقود حربا مزدوجة ضدّ السنّة والشيعة في الوقت نفسه.
7- يعتقد الصدر انه، إذا ما اراد العصيان، فإن الشيعة الباقين من غير اتباعه، وبسبب الانتماء إلى المذهب نفسه، لايمكنهم تركه لقمة سائغة امام الاميركان، وهكذا قد يُحرج موقف آية الله السيستاني.
8- إن قرب توقيت نقل السلطة إلى العراقيين في يونيو/ حزيران 2004، جعل الصدر يتحرّك استباقا لحجز حصّته في النظام المستقبلي. فالإدارة الاميركية تريد انتقالا هادئا، وهو عبر حركته يريد تحمية الوضع علّه يحصّل بذلك، ما عجز عن تحقيقه على البارد.
9- يعرف الصدر أنه إذا ما اراد المزيد من الشعبيّة والاتباع، فما عليه إلا ان يتشدّد ضدّ الوجود الاميركي. فالعالم الاسلامي يكره اميركا من العمق. وإن كل متعاون معها يعتبر خائنا، حتى ولو كان هذا التعاون مفيدا للعراق. إذا المزيد من التشدّد ضد الاميركيين، يعني المزيد من الشعبيّة التي قد تُدرج في تاريخ العراق، كما نذكر الآن ابطال ثورةالعشرين.
10- واخيرا وليس آخرا، تندرج زيارة الامم المتحدة إلى العراق للعمل على المساهمة في نقل السلطة إلى العراقيين، وكأنها من الاسباب التي ساهمت في حركة الصدر.
لكن السؤال يبقى: لماذا ترك الكوفة وذهب إلى النجف كما يقال؟
قد يكون السبب ان الكوفة صغيرة نسبيا مقارنة مع النجف. كذلك الامر، فإن النجف وبسبب قيمتها الدينيّة، قد تضع الكثير من القيود على العمل العسكري الاميركي. هذا عدا انها - أي النجف - مركز ثقل آية الله السيستاني. فهل يريد الصدر إحراج المرجعيّة الكبرى؟ أم أن ذهابه إلى النجف هو من ضمن تسوية معيّنة، قد لا تؤدّي إلى موت الذئب، أو إلى إفناء الغنم. وهنا قد يسأل المُحلّل: أين دور المرجعيّة حاليّا، فحتى الآن لم يصدر عنها أي شيء واضح؟
في البُعد الإقليمي
بعد اغتيال الشيخ احمد ياسين زعيم حركة حماس من قبل شارون. وضع حزب الله نفسه بتصرّف حركة حماس، وبتصرّف مسئوليها. في الوقت نفسه اعلن الصدر موقفه من عمليّة اغتيال الشيخ ياسين، والذي يتطابق تماما مع موقف حزب الله. في مكان آخر، يعلن رئيس وكالة الطاقة الدوليّة محمّد البرادعي أن صبره قد نفد بسبب تصرّف إيران حيال إخفاء معلومات نوويّة عن الوكالة. وفي الوقت نفسه، بدأت تصدر اعتراضات من الكثير من العراقيّين العلمانيّين - الديمقراطيّين بشأن تهميشهم في مرحلة بناء العراق الجديد. وقد بدأ هؤلاء يهمسون سرّا عن التدخّل الايراني الكثيف في شئون العراق، وكيف أن إيران تُغرق السوق العراقيّة بالاموال الطائلة والهدايا وذلك عبر حزب الدعوة الممثّل في مجلس الحكم عبر إبراهيم الجعفري؟ فالذي لا تستطيع إيران شراءه تهدّده. هل لدى الصدر ضلع في هذه الامور، الامر الذي جعل الاميركيين يغلقون صحيفته، وإعادة إحياء مذكّرة التوقيف بحقّه، بشكل وضعه في موقف حرج أدى إلى عصيانه؟ ممكن.
إذا هذه هي الاوضاع حاليّا. فحتى لو كان الصراع دينيا لجهّة الصدر على الاقلّ، فإن هدفه الاسمى هو سياسي بامتياز.
حدود اللعبة الراهنة
هناك مفارقة Paradox مهمّة حاليّا تتجلّى من خلال الاوضاع السائدة بين الصدر وبريمر. فحتى لو ربح بريمر عسكريّا، وقبض على الصدر أو قتله، فهو خاسر على صعيد مشروعه السياسي. من جهة اخرى، فحتى لو ربح الصدر وكسر الاميركيين، فإنهم سيضعفون تجاه المقاومة السنيّة إذا صحّ التعبير، بذلك يكون قد ساهم هو في إفشال مشروعه السياسي عبر إضعاف الاميركيين، في الوقت الذي لا يمكن له الانضمام إلى المقاومة السنيّة. لكن الاكيد أنه لا يمكن لاميركا ان تتراجع حاليا عن موقفها تجاه الصدر. وهو، أي الصدر لا يمكن له التراجع وإلا كانت خسارته السياسيّة كبيرة تجاه مناصريه. إذا لا بد من تسوية. وهذه التسوية يجب تأتي من المرجعيّة الكبرى آية الله السيستاني، نظرا لما له من تاثير على الاوضاع. فهل الصدر مستعدّ للانضواء تحت راية المرجعيّة. هناك شكّ في الامر. أو قد يأتي الحل، أو التسوية من قبل الراعي الاقليمي للصدر. والكلّ ينتظر الإخراج، لكن الاكيد ان للعبة حدودا مضبوطة جدّا جدّا.
ماذا عن حصار الفلّوجة؟
لا يمكن لاميركا ان تتراجع عن حصار الفلّوجة. وهي مرغمة على إحراز نتائج في هذه المدينة العاصية. إذ من الضروري أن يمتصّ الاميركيون الغضب الذي سبّبته صور الجثث في الفلّوجة والتي بُثّت على شاشات التلفزة. والعمليّة ضروريّة، قبل عمليّة نقل السلطة إلى العراقيّين، لتنظيف الفلّوجة من بقايا النظام السابق، او من الجهاديّين. لكن مشكلة الاميركيين تندرج في المدى الذي قد يصلون إليه في استعمال العنف. فالكثير منه مضرّ لمشروعهم، والقليل منه قد يأكل صورتهم الردعيّة. لكن الاكيد، ان الفلّوجة حاليا هي قيد الاحتواء بانتظار حلّ مشكلة الصدر.
عميد ركن متقاعد وأستاذ محاضر في جامعة سيّدة اللويزة - لبنان
العدد 580 - الأربعاء 07 أبريل 2004م الموافق 16 صفر 1425هـ