العدد 580 - الأربعاء 07 أبريل 2004م الموافق 16 صفر 1425هـ

ريشة بثينة فخرو وعدستها تطلان من شرف نوافذ الزايد

المنامة - عبيدلي العبيدلي 

تحديث: 12 مايو 2017

لأكثر من سبب أحرص على حضور أي معرض تقيمه الفنانة بثينة عبدالله فخرو. أهم تلك الأسباب أنها تبحث عن التميز سواء على مستوى الموضوع أو المعالجة. فهي في مملكة دلمون القديمة، وهو أول معرض منفرد أقامته بثينة في فبراير/شباط 1999، حينها اختارت بثينة الأختام الدلمونية لكي تقول لنا حاولوا ان تقرأوا تاريخ دلمون الفني من خلال أختامها. لكنها لا تتركنا تيها، وربما ضجرين بين أختام دلمون الممعنة في الصغر والغاية في التسطيح، بل تحول تلك المنمنات الختمية التي لا تلتقط جمالياتها سوى عيون مبدعة كعيون بثينة إلى لوحات مائية وأخرى زجاجية معشقة لنكتشف بالأبعاد الثلاثية البثينية - نسبة إلى بثينة - أننا أمام متحفا حديثا من دون تاريخ محدد يكاد يقترب من التجريد وينجح في تدوين تاريخ مملكة دلمون القديمة من دون ان يمس تألق الفن البسيط الذي اكتنفته أختامها الموغلة في القدم.

جاء المعرض حينها تأصيلا غير مفتعل لتاريخ فني غير مدون ليبني جسر التواصل المطلوب بين حضارة راسخة وإبداع حداثي بحاجة إلى من يحتضنه ليعيد لهذه الأمة مكانتها التي تستحقها.

وقبل أن نستفيق من نشوة الأختام تفاجئنا بثينة وفي حركة فنية جريئة تتألق في داخلها طفولة متمردة في غاية الرقة بلوحات - واستخدم تعبير لوحة وليس صورة - التقطتها عدستها الماهرة - الباحثة دوما عن تحد - في ربوع الأندلس. لم تذهب تلك العدسة لتبحث عن الأمجاد العربية والإسلامية في الأندلس «الضائعة أو المسروقة» كما يصر الكثير منا على اللجوء إليها لتعويض تخلفه الحضاري المعاصر، ولا كي تقيم عزاء سرمديا لما فقده العرب هناك. وضعت بثينة، كما يخيل إلي، غصتها العربية والإسلامية جانبا، وكتمت آلام جراحها كما فعلت الخنساء عندما فقدت اعزاءها - بين أضلعها وعلت على أحزانها من دون ان تتناساها، وراحت تبحث عن الإنساني المشترك المعاصر بين العالمين: العربي والغربي.

ذهبت عدسة بثينة إلى الأندلس وعادت لتفاجئنا مرة أخرى بهديل حمام الأندلس ورحيق أزهارها وانسياب نوافيرها. في معرضها الفوتغرافي المشترك مع فنانين آخرين شاركاها رحلة الأندلس، قالت بثينة كلمتها مرة أخرى: أنا اتميز باختيار الموضوع وأصر على التجديد في المعالجة وفي الوسط (وثيهش) الفني الذي استخدمه.

ماذا قالت بثينة في بيت أستاذنا الكبير يرحمه الله عبدالله الزايد؟

قبل أن أنقلكم إلى هناك لابد من القول ان بثينة دأبت على إحاطتي علما، ولا أدعي أنها تستشيرني لكي لا أكسب مجدا لا أستحقه، ببعض ما يدور في خاطرها من أفكار ومن مشروعات، نتجاذب أطراف الحديث بشأنها لنقتل آلام التغرب التي كانت تكتنف حياتنا حينها. هذه المرة ومن دون سابق إنذار فاجأتني حين سلمتني نموذج دعوة (كانت الدعوة للنساء فقط) لمعرضها الجديد في بيت عبدالله الزايد والذي حمل عنوان نوافذه... نوافذنا. غاب عن بالي ضرورة التوقف عند تلك العبارة، فقد أعجبني تصميم الدعوة وشدني عن الإلتفات إلى أي مما ورد فيها من نصوص. هكذا هي دعوات معارض بثينة... عبارة عن لوحات تختلف في رسالتها الفنية عن تلك الأصلية المعروضة في المعرض.

لا أكتم القارئ سرا لقد ساورني الخوف على بثينة... مالذي ستقوله لنا هذه المرة... خشيت عليها ان تحاول قراءة أفكار الزايد التي وردت في كتاباته وقصائده وتحولها إلى لوحات مرسومة أو لقطات مصورة. لقد سبقها إلى مثل هذه المدرسة مبدعون آخرون، نفر قليل منهم نجح وعدد لا يستهان به وقع ضحية التقليد غير المبتكر. للمرة الأولى التي أتردد فيها لتلبية دعوة تأتي من بثينة. كنت أحاول البحث عن سبب يبرر تقاعسي والذي هو في حقيقة الأمر خشية من صدمة كنت أشفق فيها على نفسي وأتحاشى - ربما من دون وعي مسبق - أن لا أجد ما اتوخاه... لكن لم يكن من الأمر بد.

تحاملت على نفسي وذهبت مبكرا بعض الوقت. تجولت سريعا بين اللوحات... شريطا بانوراميا امتد أمامي في تلك الجولة وعند كل لوحة تبرز أمامي إحدى نوافذ الزايد. تساءلت ما السر وراء كل هذه النوافذ؟ بعضها حقيقي وبعضها الآخر أعادت تركيبها بثينة بطريقة متميزة وحولته إلى لوحة. انتحيت جانبا إذ لم يكن بيت الزايد مكتضا بالزوار وحاولت إعادة ترتيب أفكاري محاولا لمّ اللوحات في لوحة واحدة. حينها وصلت إلى ما ذهبت إليه بثينة... وكانت مفاجأة أو بالأحرى صدمة لكنها صدمة في غاية الابتكار والإبداع. تركت بثينة تراث الزايد على رغم أهميته وتقديرها له إذ لا تكف هي نفسها عن الإشادة به في لقاءاتنا، وأنزوت في ناحية واحدة من زواياه واختارته نافذته لتطل من خلالها على آفاقه ولتدعونا نحن أيضا كي نطل معها من تلك النافذة.

لوحات بثينة الزيتية والمائية وصور عدستها تقول... نافذة الزايد المشرعة هي الرمز لرؤيته المتقدمة التي سبق بها عصره ومعاصريه... وإن كان لنا أن نقرأ الزايد - تقول لنا بثينة - فعلينا أن نقرأه من تلك النافذة المتقدمة... تحولت نوافذ بثينة إلى ما يشبه الأوتار التي تعزف لحنا واحدا هو لحن النافذة... من النافذة علينا ان نقرأ الزايد في إطارها الزمني والتاريخي نطالع أفكاره وعبرها نعكس تألقه... وبين أطرها ننشد إلى واقعه ونلامس أحداثه.

عند كل لوحة أو لقطة تتراجع مخاوفي وتحل مكانها نشوة وارتياح... نشوة لأني أمام كل نافذة أجد مقطعا من مقاطع قصيدة قالها الزايد... ليس هناك ربط قسري بين اللوحة أو اللقطة والنص، العكس تماما ما يشاهده من يتمعن في لوحات بثينة... يتزاوج النص والرسم او اللقطة في نسيج متكامل يقول للزائر هذه إحدى نوافذ الزايد كما تريد بثينة منك ان تراها يستسلم المشاهذ بإرادته ويحلق عبر نافذة بثينة ليتعانق مع نص الزايد ونظرنه المتقدمة.

حافظت بثينة على عذرية نصوص الزايد فلم تخدشها أو تشوهها وبدلا من ذلك تركت لعدستها او لريشتها الحرية في معانقة نوافذ الزايد فولد ذلك العناق نشوة صوفية شبيهة بحمامات الأندلس ونوافيرها التي كانت موضوع معرض بثينة السابق.

هناك الكثير مما يمكن ان يقال عن اللوحات أو اللقطات لكني أترك ذلك لمن لهم باع أطول مني في مجال الفن والإبداع. فما أنا إلا زائر غير محترف لفنانة لا يملك إلا أن يعشق لوحاتها.

بقيت مسألة تنبغي الإشارة إليها هنا وهي جهود الشيخة مي فهي الأخرى تحدت الظروف ونجحت في أن تفتح أبواب بيت عبدالله الزايد أمام المبدعين من أمثال بثينة. بإمكانات ذاتية متواضعة وبإصرار لايعرف اليأس ولايستسلم أمام الصعاب تمكنت مي آل خليفة من أن تشرع الكثير من النوافذ الثقافية، التي كانت مغلقة، أمام رياح التغيير الإيجابية التي ينتظرها الجميع بفارغ الصبر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً