برز عالم الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر كظاهرة غير متوقعة في الأيام الأولى التي اعقبت سقوط نظام صدام حسين، محدثا حالة من الاستغراب الشديد لدى الإدارة الأميركية التي كانت طوال السنوات الماضية التي سبقت الحرب الأخيرة تتابع عن كثب ما يجري في العراق، وموقع القوى السياسية والاجتماعية الناشطة فيه من خلال حلفائها في المعارضة العراقية أو تقارير الأجهزة الاستخبارية المختلفة، أو من خلال اللقاءات المكوكية التي كانت تجريها مع من اطلق عليهم بـ «مجموعة المستشارين العراقيين» الذين كانوا يشاركون في دورات خاصة نظمت لهم في واشنطن ولندن وعواصم اخرى، هدفها الاستعداد والتهيؤ التفصيلي لمرحلة ما بعد صدام، واضعين دراسات شاملة وتوقعات عدة لم يكن بينها اشارة الى امكان ظهور تيار شيعي رديكالي يقوده شخص يدعى مقتدى الصدر، يسحب وراءه نحو مليون شخص يقفون كلهم على اهبة الاستعداد لتنفيذ أوامره وتوجيهاته.
كانت حسابات الإدارة الأميركية تفترض ان يرحب العراقيون بقواتهم التي كانت عبارة عن تطمينات قدمها بعض اقطاب المعارضة أو المستشارين العراقيين تصطدم بحقائق جديدة لم تبررها الوقائع التي جرت في العراق حتى الآن. لقد أعلن العراقيون عن موقفهم الرافض للاحتلال وسخروا قواهم وطاقاتهم المختلفة، لمواجهته، ولكن المشكلة تكمن في عدم وجود برنامج عمل مشترك بين القوى الشعبية المختلفة، فكل تيار يعمل طبقا لطريقته، ومن بينها تيار مقتدى الصدر الذي يعتبر الأكثر راديكالية بين التيارات الاسلامية الشيعية أو السنية.
اطلق مقتدى الصدر جيش المهدي، واصدر صحيفة «الحوزة الناطقة» التي اغلقت أخيرا والتي كانت عبارة عن رد مبطن على الحوزة الرسمية المعترف بها من قبل غالبية شيعة العراق والتي يمثلها آية الله السيدعلي السيستاني أو الحوزة الثانية التي يمثلها آية الله بشير النجفي والتي يسميها بـ «الحوزة الصامتة».
وكان مقتدى الصدر قد تعلق بارث والده محمد صادق الصدر الذي قتله صدام حسين مع اثنين من ابنائه، هم مؤمل ومصطفى، ما جعله اكثر استعدادا للمواجهة التي عرف بها والده أثناء خطبته الشهيرة في جامع الكوفة على مدى 11 شهرا قبل اغتياله والتي هاجم فيها النظام من دون خوف أو وجل، وهذا الارث انتقل بصورة طوعية اليه، وتحول اتباع والده الى ناحيته من دون تردد.
وامام صعود نجم مقتدى في الاوساط الشعبية الفقيرة في مدن العراق المهمشة تحاول بعض الأطراف السياسية داخل مجلس الحكم او خارجه استثمار الموقف، وربما حتى الاميركان قد يكونون بحاجة الى مثل هذه المعارضة على ألا تتعدى مستوى المطالبات السلمية، وكذلك المرجعية الشيعية الرسمية هي الاخرى تحتاج الى معادلة «مقتدى» لتحذير الاميركان من مغبة الاستمرار في مواقفهم الرافضة لمطلب الانتخابات العامة أو اقامة مجلس وطني وحكومة شرعية منتخبة.
وفي المقابل تحاول بعض التيارات داخل مجلس الحكم، وخصوصا الشخصيات التي اطلق عليها اسم «جماعة الخمسة» الشيعية استثمار الوضع الجديد للاقتراب أكثر فأكثر من القوات الأميركية وتحذيرها ولعب لعبة التخويف من هذا التيار لحصد المزيد من المكاسب والمواقع، وتأكيد انهم يمثلون التيار الشيعي «المعتدل» الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التيار الراديكالي المتطرف الذي يمثله مقتدى الصدر وجماعات أخرى.
أما الطرف السني الرافض للتعامل مع الاحتلال فانه يعمل على دفع تيار مقتدى الصدر الى تطوير المواجهة لتصل الى مستوى العنف المسلح ضد الأميركان عسى أن يخفف من وطأة الحصار والتدمير الذي تتعرض له مدن المثلث السني يوميا.
مناورات الاطراف السياسية المختلفة تحاول استخدام «الرقم الجديد» الذي يتمثل بتيار مقتدى، كل لمصلحته، والهدف من ذلك ترتيب الكثير من الاوراق والبرامج والمتطلبات التي تهمها، ومن الصعب على المراقب حاليا التكهن بما ستؤول اليه التطورات المقبلة، ولاسيما أن الساحة السياسية العراقية حبلى بالحوادث التي ربما تفجر احوالا جديدة غير متوقعة، وعليه فان سيدالاحكام هو الانتظار برهة من الزمن لاكتشاف المزيد من التداعيات والحقائق المقبلة
العدد 579 - الثلثاء 06 أبريل 2004م الموافق 15 صفر 1425هـ