من البداية المبكرة، لم نتردد لحظة واحدة في تأييد حق الشعب العراقي في المقاومة، فهذا مبدأ أصيل في تاريخ الأمم والشعوب، طالما هناك احتلال أجنبي، هناك بالضرورة مقاومة وطنية. وقد علمتنا تجارب التاريخ ان المقاومة لا تتوقف إلا بخروج المستعمر الذي يحتل الوطن، أما غير ذلك فعلى هذا المحتل ان يدفع الثمن الباهظ من أرواح جنوده ومن ذخيرة عتاده ومن سمعته الدولية.
ولم يكن ممكنا ان نؤيد المقاومة الفلسطينية الباسلة ضد المستعمر الصهيوني في فلسطين، وأن ننكر في الوقت ذاته حق المقاومة العراقية في ممارسة الطريق والسلوك نفسه، فهذا حق تاريخي... وبالمقابل فإن المستعمر الصهيوني اضطر الى الخروج هاربا من جنوب لبنان، تحت وقع ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية، وبسبب الخسائر الفادحة التي كبدتها له، ومن دون مثل هذه المقاومة ما كان ممكنا ان يخرج من هناك تاركا وراءه كل اطماعه التوسعية التاريخية في الأرض ومصادر المياه اللبنانية... والموقف في العراق سيكون مماثلا.
وبسبب تأييدنا المبدئي هذا لحق الشعب العراقي في المقاومة ضد المحتل الأميركي وتوابعه، اختلف معنا بعض العراقيين، سواء من الذين عادوا الى البلاد على أسنة الرماح الأميركية، وبعد اسقاط نظام صدام حسين القهري، او من الذين اكتووا بنيران هذا النظام وظلوا في الداخل العراقي أسرى ظلمه وقهره، وبدأ هؤلاء وأولئك يتهمون كل من يؤيد المقاومة بأنه عميل لصدام، أو كاره لأميركا أو حاقد على تحرير العراق وناقم على العراق الديمقراطي الجديد، أو مؤيد للإرهاب!
وبعد انقضاء العام الأول على العراق تحت الاحتلال، نظن ان أمورا كثيرة بدأت تتضح، وان حقائق عدة بدأت تظهر علانية وخصوصا فيما يتعلق بقضيتين أساسيتين، هما أولا: بناء العراق الديمقراطي على رغم انه تحت الاحتلال الأجنبي، وثانيا: المسار الذي نشأت ثم سارت فيه المقاومة العراقية، وفصائلها وانتماءاتها وعلاقاتها بقوى أخرى خارج الحدود أو داخلها.
وبداية نستذكر ونذكر أننا كنا ومازلنا ضد أي نظام حكم يقهر شعبه ويصادر حرياته وينتهك حقوقه، تحت أي شعار وبأي شكل من الأشكال، بما في ذلك نظام صدام، الذي تفوق على جميع النظم الاستبدادية، بدمويته الشديدة وقسوته المهينة، وكذلك بمغامراته العسكرية عبر الحدود، التي جرت على الوطن العربي كله أسوأ الآثار، التي مازلنا نعاني منها حتى اليوم.
وكان من سوء حظ الشعب العراقي العريق، ان وقع في قبضة مثل هذا النظام لسنوات عدة وقاسية، وحين بدأ له أمل الخروج من وطأتها الدامية، سقط تحت سنابل الاحتلال الأجنبي، ومن ثم لم يستطع ان يحافظ على استقلال دولته الحديثة الا نحو ثمانين عاما فقط، ولعل القول الشائع عن بعض العراقيين بأن المحتل الأميركي أرحم من حكم صدام، إنما يعكس حالة غامضة من اختلاط المفاهيم والرؤى وضياع اليقين، التي ساوت في النهاية بين الأسوأ والأشد سوءا، لأن القهر الداخلي والقهر الاستعماري يؤديان النتيجة نفسها في نهاية الطريق.
ومن شدة هول القهر الداخلي، يتمنى بعض الناس سقوط القاهر المستبد حتى عن طريق الغزو والاستعمار الأجنبي، ظنا بأن الأجنبي سيغزو ثم يرحل! على عكس الآخر الذي ان تمكن من صولجان السلطة، فهو لن يرحل الا باحدى وسيلتين، الموت قضاء وقدرا، ربما بحكم الشيخوخة، أو المرض العضال، أو الموت قتلا وسحلا في الشوارع، ربما بفعل انقلاب يطيح به، والواقع ان الوسيلتين المذكورتين للتغيير في قمة السلطة العربية خصوصا، تؤكد ان حقيقة سيادة الحكم الاستبدادي، الذي يغيب معه رأي الشعب في المشاركة والاختيار.
ومن المفارقات ان صدام حسين استولى على حكم العراق بالانقلاب، وسقط عن عرش العراق بالمستعمر الأميركي، لكنه كان قد ورت الحكم والعراق مستقل، وتركه والعراق محتل، والضحية في الحالتين هو الشعب المقهور والوطن المأسور.
بعد عام من الاحتلال الأميركي، لم يحقق الرئيس بوش الا هدفا واحدا من أهدافه المعلنة سلفا، لقد حقق هدف اسقاط نظام صدام حسين، لكنه لم يحقق هدف العثور على أسلحة دمار شامل كانت المبرر الرئيسي لشن الحرب، ولم يحقق على رغم جيوشه الجرارة في العراق، الأمن والاستقرار حتى في قلب العاصمة بغداد، بل ان ما تسمى المنطقة الخضراء التي تحتلها القيادات الاميركية في العاصمة، هي الهدف المفضل لهجمات صواريخ المقاومة وعملياتها الانتحارية.
والأهم ان هدف «بناء عراق ديمقراطي، يكون بؤرة اشعاع ديمقراطي لكل العرب» لم ير النور حتى الآن، إذ كيف يبني المستعمر الأجنبي ديمقراطية حقيقية في البلاد التي يستعمرها، وحيث لا أمن ولا استقرار ولا حرية وديمقراطية ولا خدمات، فإن الناس العاديين يراجعون مواقفهم، ويتطلعون بالسليقة نحو انهاء الاحتلال واسترداد الاستقلال والحصول على الحرية.
بعد عام كامل على الاحتلال، ازدادت عمليات المقاومة العراقية شراسة وقوة، وتعددت مصادرها وفصائلها وتكتيكاتها، وبصرف النظر عما يوجه اليها من اتهامات عدة، بتصنيفها بأنها «مقاومة أجنبية» جاءت من خارج الحدود، او أنها مقاومة تمثل فلول البعث والنظام الصدامي، أو أنها تتبع القاعدة وبن لادن والتنظيمات الاسلامية المتشددة الأخرى، او انها تضم المحبطين والعاطلين فاقدي الحس السياسي محترفي القتل.
بصرف النظر عن كل هذه التصنيفات، فإن الواقع يقول ان هناك مقاومة مسلحة جرئية تعمل في العراق، ضد قوات الاحتلال وضد كل من يتعاون معه من السياسيين والموظفين، وانها انهكت الجيش الأميركي الجرار المسلح بأحدث تكنولوجيا السلاح، وانها أوقعت خسائر جسيمة في صفوفه، كسرت حاجز الستمئة قتيل أميركي في عام واحد، وأن وتيرة هجماتها تصاعدت بعنف في الفترة الأخيرة، حتى وصلت معدل 27 عملية وهجوما في اليوم الواحد، طبقا لمتحدث عسكري أميركي.
وقد انعكس كل ذلك في اتجاهين، انعكس أولا على الاوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في العراق، الذي تتنازعه قوى سياسية تعاونت أو توافقت مع الاهداف المعلنة للمحتل الأميركي، ولذلك انضمت في اللعبة السياسية لوراثة الحكم، واطلقت السراح للصراع العرقي والمذهبي الديني، حيث الاكراد قد حصلوا على حق تاريخي بالفيدرالية لكنهم يتوجسون رعبا من المستقبل، يخافون ارتداد الاطراف العربية عن هذه الفيدرالية من ناحية، ويخشون غدر الصديق الأميركي من ناحية أخرى، والشيعة يراهنون على غالبيتهم العددية للوصول الى حكم كل العراق، والسنة تتلبسهم عقدة الاقلية وكوابيس الاضطهاد، وقد رأوا بأم العين، كيف فقدوا السلطة، ثم كيف توزعت مناصب مجلس الحكم والوزراة الحالية وفق الانصبة الطائفية، فلم ينالهم الا القليل.
روح التوجس والخوف والشك المتبادل تحكم هؤلاء جميعا، يشعل نارها حتما المستعمر الأجنبي، الذي يخطط علانية للبقاء في العراق، حتى بعد تسليم السلطة لحكومة مؤقتة في 30 من يونيو/ حزيران المقبل، والذي يهمه ان يظل الشعب العراقي مشتتا بين التقسيمات العرقية والطائفية لكي يظل الوطن العراقي بثروته الهائلة وموقعه الاستراتيجي المهم في قبضته على الدوام، وهذا هو الاتجاه الثاني، إذ يريد الرئيس الاميركي بوش ورقة العراق، ليلعب بها في انتخابات الرئاسة المقبلة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من هذا العام، أليست هذه حربه الكبرى وانجازه الأهم!
وبينما تجري وقائع العراق في هذين الاتجاهين في الداخل العراقي وفي الداخل الأميركي، يظل العرب فرادى وجماعات، مبتعدين، منهم من يدعي الحكمة بعدم التدخل في الشأن العراقي، ومنهم من يدعي عدم القدرة، وفي كل الاحوال فإن العرب غير جادين في التعامل مع الأزمة العراقية بموضوعية، كما ان بعض العراقيين لا يريدون من العرب حتى مجرد النصيحة، لاسباب معروفة ومكررة، تحت شعار «طالما ايدتم صدام أو تعاملتم معه في الماضي، اغربوا عن وجوهنا...».
واذا كان العراق «القديم» قد لعب دورا رئيسيا في العمل العربي خلال العراق الماضي، فإن العراق «الجديد» سيلعب دورا مهما وجديدا في القرن الحالي، في ظل الظروف الاقليمية والمعادلة الدولية الجديدة، التي تقودها أميركا، وخصوصا مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تراهن السياسة الاميركية على ان يكون العراق مرتكزا من أهم مرتكزات الاستراتيجية، ليس فقط كقاعدة عسكرية ولكن ايضا كقاعدة لنشر الفكر والقيم والتبشير الأميركي، المهاجم بقوة علينا جميعا.
وليس هذا رجما بالغيب ولا ضربا بالتنبؤات ولكنه فكر وتخطيط سياسي شائع في الأدبيات الأميركية وقنواتها البحثية والاعلامية المختلفة.
بقيت لنا كلمة للمقاومة العراقية في نهاية هذا المطاف...
ان حق الشعوب في مقاومة محتليها وغاصبيها ومستعمريها، حق أصيل كفلته الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، بل ان واجب المقاومة الوطنية ان تجند كل القوى لاستنزاف المحتل وكسر شوكة الغاصب، ومهاجمة جيوشه وتدمير عتاده ومطاردته في كل مكان، حتى يستقل الوطن.
ولكن... التمثيل بجثث القتلى الاميركيين وتعليقها على أسوار الجسور بعد سحلها كما حدث قبل أيام، استذكارا لما جرى لجنود أميركيين ايضا في الصومال قبل نحو عشر سنوات، عمل غير شرعي وغير انساني ومعاد لكل أصول المقاومة الوطنية، بل هو يفقدها شرعية الكفاح وتأييد المتعاطفين، ولا معنى هنا للقول بأن هذا ثأر مما فعله المحتل!
نعم... لقد أوقعت هذه الحادثة «الصدمة والترويع» في نفوس الشعب الأميركي وأدمت قلوب قادته، لكنها أحدثت الأثر نفسه في نفوس المؤيدين لحق المقاومة!
خير الكلام:
يقول الشاعر العراقي معروف الرصافي:
ومن يعش وهو مضياع لفرصته
ذاق الشقاء وأدمى كفه الندم
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 579 - الثلثاء 06 أبريل 2004م الموافق 15 صفر 1425هـ