من يراقب لغة الاحتلال في العراق يلاحظ أنها أخذت تقترب رويدا من لغة الاستبداد. فاللغة في النهاية تعكس ما يدور في العقل، وحين تصاب اللغة بالاضطراب فمعنى ذلك أن العقل أصيب بشيء من «المس». والسياسة حين تتعطل أو تتحول من التفاوض (التخاطب العقلاني) إلى التناحر والضرب العشوائي ومن دون تفكير فمعنى ذلك أن السياسة خرجت من طورها العاقل ودخلت مرحلة الجنون.
الاستبداد جنون في وجه من وجوهه. كذلك الاحتلال حين يتحول إلى استخدام لغة المستبد في التعاطي مع الشعب فمعنى ذلك أنه دخل طور المجنون المستبد.
لغة الاحتلال الآن في العراق أصبحت قاب قوسين أو أقل من لغة صدّام. فالكلام خرج على المنطق وتحولت القوة العسكرية (الإفراط في استخدام العنف) الوسيلة الأولى في التخاطب وهذا بالضبط ما توصل إليه «صدّام» حين تعامل مع شعبه بلغة تعطيل العقل وإرهاب المعارضة، وهذا السلوك دفعه لاحقا إلى الغدر برفاق دربه وتصفية مراكز القوى في حزبه لمصلحة القبيلة، ثم لمصلحة العشيرة، وأخيرا لمصلحة الأسرة. وحين اقتربت ساعة الحسم لم يجد صدام سوى أسرته وشقيقه وأولاده للدفاع عن نظامه. ومثل هذا النوع من السلوك السياسي يؤسس لا شك مثل هذا النوع من الدفاع وبالتالي هذا النوع من السقوط.
سقطت بغداد لأن صدام لم يجد سوى أولاده وشقيقه للدفاع عنها. ومن يغدر بشعبه طوال ثلاثة عقود من الزمن لن يهبَّ الشعب للدفاع عنه في الأيام الأخيرة من عمر نظامه.
سياسة الاستبداد أوصلت العراق إلى اللاسياسة. وبالتالي فإن اعتماد الاحتلال سياسة الاستبداد كوسيلة وحيدة للتعاطي مع اعتراضات الشعب العراقي على الغزو الأميركي سيدفع الأمور إلى مرحلة اللاسياسة.
هناك تشابه كبير بين لغة الاحتلال ولغة الاستبداد. وفي حال العراق يتوقع إذا استمر الوضع على ما هو عليه من دون تصحيح أن تتطابق لغة بريمر مع لغة صدام. لغة الاحتلال دخلت الآن مرحلة الالتواء وباتت تبحث عن ذريعة لتبرير سلوكها من دون قراءة عاقلة لتعقيدات الواقع.
مثلا تقول سلطة الاحتلال إن الوضع في العراق ممتاز وعلى أفضل ما يرام تردّ المرجعية الدينية مطالبة بإجراء انتخابات حرة وعادلة ونزيهة، فترتد سلطة الاحتلال على نفسها وتردّ أن الوضع في العراق ليس على ما يرام لإجراء انتخابات.
مثلا تقول سلطة الاحتلال إنها أنجزت الدستور وتريد من المراجع والمرجعيات الموافقة عليه، فتردّ الهيئات التقليدية المسئولة إنها تفضل أن يصوغ الشعب العراقي دستوره بعد انتخاب مجلس النواب، فترتد سلطة الاحتلال على قولها السابق وتفرض دستورها من طريق إقناع مجلس الحكم بـ «القوة» والتخويف وتجيز الدستور مع مواد تمنع تعديله بعد انسحاب الاحتلال.
مثلا تكرر سلطة الاحتلال أنها حققت الديمقراطية وحرية الكلام والنشر. ولكنها تغلق مكاتب المحطات والصحف والمنشورات التي تعارض الاحتلال، ثم تندفع لاحقا وتغلق صحيفة «الحوزة» بذريعة أنها تخالف الاحتلال وتدعو إلى مقاومته.
هذه الأمثلة تؤكد الاقتراب والتقارب بين لغة الاستبداد ولغة الاحتلال. والفارق بين اللغتين ليس كثيرا بل أخذ يتطابق نسبيا... ومع مرور الوقت لا يستبعد أن تصبح اللغة واحدة، في حال استمر الاحتلال على استلهام لغة صدام. فالاستبداد في هذا المعنى غبي وكذلك الاحتلال ليس بعيدا عن الغباء (صدام).
في «مقدمة» ابن خلدون هناك إشارة بالغة الأهمية إلى علاقة الغالب بالمغلوب. فابن خلدون يقول (بناء على تجارب كثيرة) إن الغالب في الفترة الأولى من غُلبه يتأثر بالمغلوب قبل ان يعود المغلوب ويتأثر بالغالب. ويبدو الآن أن الاحتلال في العراق يمر في فترة تأثره بالمغلوب (صدام). فاللغة التي استخدمها صدام للتخلص من رفاقه والمعارضة وكل المخالفين بدأ يستخدمها الاحتلال للتخلص من كل من يراه معارضا للغزو الأميركي. والخطر الكبير من الاحتلال هو انه بات على قناعة عشية الذكرى الأولى للحرب بأن غالبية الشعب العراقي ضده... وبالتالي سيضطر إلى استخدام كل عناصر القوة لتحطيمه قبل الانسحاب.
إنها سياسة مخيفة، ومن يراقب لغة الاحتلال المفتون بعضلاته يلاحظ ذاك الاقتراب اليومي من لغة الاستبداد وهذه كارثة من لون آخر أقل صفاتها الموصوفة: الجنون
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 579 - الثلثاء 06 أبريل 2004م الموافق 15 صفر 1425هـ