استطاع الزعيم جمال عبدالناصر أن يوحد العرب مرتين اثنتين، الأولى إبان العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، والثانية عند تأميم قناة السويس وبناء السد العالي قبل نكسة 1967 عندما احتلت سيناء والضفة الغربية، وصارت القدس عاصمة «إسرائيل». وفي ذاك الزمان وقبله بقليل، تجمعت العرب حول أغنيات أم كلثوم، عبرت السنوات سريعا من دون أية بوادر لتجمع أو وحدة حقيقية إلى أن جمعتهم حديثا قناة «الجزيرة» المبادرة في كسر القيود الرقابية وتقديم الخبر السياسي مرفقا بالتحليل بشكل لم يعهده الإعلام العربي قبلا.
سريعا، تبدل الحال وخرجت إلى الساحة الإعلامية العربية قنوات جديدة تسير على النسق والنهج والشعار ذاته الحامل «للرأي والرأي الآخر» و«تحليل ما وراء الخبر».
العرب الذين شهدوا سيل تراكم الإخفاقات العربية في الوحدة الوطنية والاقتصادية والسياسية عبر الحقب والسنوات المتلاحقة، تجمعوا مجددا أمام الشاشات اللبنانية بالطريقة ذاتها التي كانوا يلتفون بها حول المذياع ليستمعوا إلى خطابات عبدالناصر أو أغنيات أم كلثوم والرحابنه، ليجمعهم هذه المرة «تلفزيون الواقع».
فقد عاش جماهير العالم العربي قبل أيام قليلة يوما صاخبا خلال تصفيات «ستار أكاديمي»، تماما مثل ما عاشوا اليوم الأخير من برنامج «سوبر ستار»، و«عالهوا سوا»... مئات الأسر كسرت القيود التنظيمية داخل الأسرة وسمحت إلى الأطفال تأخير ساعة النوم من أجل متابعة الفائز بلقب «ستار أكاديمي»، وعلى العكس أصرت عائلات أخرى أكثر من قبل على تشفير القناة حفاظا على الأخلاق والقيم والحلال والحرام، بيد أن إصرار قطاع واسع من الشباب وقبلهم أطفال الابتدائية على متابعة آخر تطورات البرنامج على مدى شهور أربعة جعلهم يستعينون بشاشات منازل أصدقائهم لتحقيق الهدف بعيدا عن الوصاية الأبوية.
أما داخل القفص الزوجي سواء كان ذهبيا أو حديديا، فكان «تلفزيون الواقع» مدعاة للكثير من المشاجرات والمشدات الكلامية بين الزوجين، فالزوج الذي كان يحكم القبضة على «الرموت كنترول» ليتنقل بين القنوات متعقبا أثر المذيعات الحسناوات لدقائق معدودة في البرامج والفواصل صار بإمكانه الآن متابعة حسناوات برامج التلفزيون الواقعي إلى أن يتعب إذ تبقى الكاميرات تصور هؤلاء الشباب المرشحين للنجومية العربية طوال الوقت حتى أثناء نومهم، فيما يبقى (الزوج) يتمنى استبدال مكانه بمكانهم خصوصا حين تبادل العناق والقبل والمزاح بالملمس.
أما الزوجة، فبإمكانها المتابعة وهي تحمل الميول والرغبات ذاتها، لكن دون التصريح بها، فإعجابها بـ «بشار الشطي» أو «ملحم زين» قد يثير غيرة زوجها ويؤدي إلى تحويل بيتها إلى ساحة لعراك الديكة، لا تنتهي إلا حين يطل الفجر.
يوميات ومتناقضات لا حصر لها عاشها العالم العربي، بين متابع لدرجة الهوس وبين رافض لدرجة التطرف. أيام وشهور، والحديث عن التفاصيل الصغيرة في يوميات المشاركين في تلك البرامج التي حققت وتحقق أكبر قدر من ساعات المشاهدة يظل بؤرة نقاشات ساخنة حتى تلك التي حرمت المتابعة من باب تحريم الاختلاط بين الجنسين وقائمة أخرى من الأسباب التي لم يعد شباب هذا الزمن يفهمونها أو يستوعبونها.
وعلى رغم وابل الانتقادات والمواجهات وحتى حالات الاكتفاء بالصمت، يتوقع المراقبون الإعلاميون أن تزداد تلك النقاشات المؤيدة والمناهضة حدة واحتداما مع انتهاء التصفيات الأولية لبرنامج «سوبر ستار2»، والتحضير على الطرف المقابل إلى جولة جديدة من «ستار أكاديمي2» و«عالهوا سوا2»...
من البعد الإعلامي الأكاديمي يرى أستاذ الإعلام بجامعة البحرين محمد السيد أن برامج البث الواقعي بدأت في أميركا بداية التسعينات من خلال برنامج اسمه «العالم الحقيقي» الذي بثته قناة M.TV المعروفة بميلها لعرض البرامج الإباحية، غير أن البرنامج أثار ضجة كبيرة بعدما تضرر المشتركون في عرض يوميات حياتهم على الملأ طوال الـ 24 ساعة لمدة شهور متواصلة، وعرف الناس بعدها أنها برامج مفتعلة وغير حقيقية إذ تتم استضافة شخصيات متنافرة ليفتعلون المواقف الدامية المفبركة، ويُتلاعب بها عبر عملية المونتاج. «وفي مراحل لاحقة كشف المشتركون أوجه الاستغلال الذي تعرضوا له وقصوا للمتابعين كيف تضررت حياتهم ولاحقتهم المشكلات (...) وفي العالم العربي يتوقع أن يعاد السيناريو ذاته، فهذه البرامج توزع وصفتها كما توزع شركة الكوكاكولا وصفتها على عملائها عبر العالم ليخرج المنتج بالطعم والمذاق ذاتهما، وبرنامج «من سيربح المليون» مثلا، هو تقليد كلي للبرنامج الأصلي، فجورج قرداحي اختير فقط لأنه يشبه إلى درجة كبيرة ريجلس هلبن مقدم البرنامج الأصلي، وقد كرر البرنامج استخدام الموسيقى واللباس والديكور والأسئلة والمحتوى بتقليد دقيق حتى في الشكليات الصغيرة». والمشكلة - بحسب السيد - أن القائمين على الإعلام لا يدركون أن الإعلام يجب أن يكون وليد بيئته الثقافية والاجتماعية والنفسية، وعندما ينقل إلى بيئة أخرى مختلفة تماما تحدث أضرار وخسائر.
ويضيف: (الأخ الأكبر) مثلا أنتج بداية في هولندا وهي بلد تباع فيه المخدرات في المقاهي وتمارس فيه تجارة الدعارة بحماية الشرطة وتُفرض على ذلك ضرائب قانونية، وهو بلد يجيز الموت الرحيم، كل ذلك بلا تجريم، فكيف تقتبس برامج مصدرها دول تختلف عنا 180 درجة!». ويزيد: «إن نقل التكنولوجيا له محاذير ويحتاج إلى جهد وعقلية تعي خطورة النقل، فما بالك بنقل الثقافة، والمصيبة أن الإعلاميين الجهلاء لا يعرفون أن الإعلام يجب أن يكون وليد البيئة وليس مغتربا عنها (...) ففكرة البث الواقعي هي فكرة متطورة لهوس المريض النفسي الذي يتلصص على أبواب الآخرين ويسترق النظر إليهم عبر المناظير والمكبرات، والإعلام حوّلها من ظاهرة مرضية إلى ظاهرة مقبولة اجتماعيا».
صرعة وتنتهي
فيما قالت أماني الحلواجي (مساعدة بحث وتدريس في قسم الإعلام والسياحة والفنون بجامعة البحرين) «الأكيد أن لي الكثير من التحفظ على هذا النوع من البرامج التي أكدت عقم الفكر الإبداعي لدينا كإعلاميين عرب، والدليل إننا نعيد تنفيذ الأفكار الغربية بالكيفية نفسها من دون الأخذ في الاعتبار الاختلاف القيمي بيننا وبينهم».
وتضيف: «الأكيد أيضا، أن القائمين على ذلك البرنامج مجموعة من المحترفين والأذكياء ولكن حسهم الاقتصادي كان أقوى كثيرا من إدراكهم للمسئولية الاجتماعية والقومية التي يفترض من الإعلام العربي التركيز عليها بدلا من الاكتفاء بالتقليد».
الحلواجي تؤكد أن برامج «تلفزيون الواقع» هي أحدث صرعات القنوات الشبابية والاستعراضية، بيد أن تلك البرامج لا تعرف طريقا إلى القنوات الجادة في كل العالم وليس فقط في الغرب، في الوقت الذي توقعت فيه أن تنتهي هذه الصرعة سريعا بمجرد أن يسأم الجمهور من متابعة خصوصيات الآخرين طوال الوقت.
وتزيد: «في الإعلام الغربي كانت هذه النوعية من البرامج تلقى إقبالا منقطع النظير، لكن ذلك الإقبال خفت مع الوقت، لأن المشاهدين صاروا لا يثقون بأنها برامج حقيقية، وقالوا عنها إنها تخلو من الإثارة والتشويق، وفي العالم العربي أيضا سرعان ما سيخفت كل هذا الصخب، وستبقى فئة محدودة التي تهتم بمتابعة خصوصيات الآخرين بقدر كبير من الفضول مقابل القاعدة الجماهيرية الكبرى».
وبحسب الحلواجي فإن الإعلام العربي لايزال يؤمن بنظرية المسئولية الاجتماعية ولا يعول على الترفيه وحده، إذ لاتزال برامج الأخبار والتثقيف تحتل الصدارة ويأتي الترفيه في الترتيب الرابع.
ففي بريطانيا مثلا، يعتبر برنامج «الرئيس/الأخ الأكبر» من أفشل برامج تلفزيون الواقع لأنه يبعث على السأم والملل ويتسم بالسطحية، وعندما أوقف بثه في البحرين - بغض النظر عن الخسائر الاقتصادية - أشاد بعض البريطانيين بقوة الرأي العام البحريني في التأثير على القرار، واعتبروا ذلك مؤشرا إيجابيا».
وختمت حديثها بقولها: «للعرب حاجات تختلف عن حاجات الغرب ومن الأجدى التركيز على تلك الاحتياجات».
الحس الوطني
فيما تقول نور صادق (طالبة في المرحلة الثانوية تفريع التجاري) «استطاع برنامج «ستار أكاديمي» استثارة الحس الوطني لدينا كخليجيين، بشكل فاق الكثير من المناهج الدراسية التي تعلمناها طوال مراحل الدراسة، لكن القضية ليست تلك، بل في حاجتنا كعرب إلى ما يوحدنا ويوحد أفكارنا وتوجهاتنا.
وتضيف: «في المدرسة، وخلال الفراغات ما بين الحصص الدراسية أو الفسحة، لا نتحدث إلا عن ما فعله بشار أو عطية أو الخلاوي... فهم يشغلوننا جميعا، بما فينا تلك الفتيات اللواتي يظهرن تمسكا بالدين، وينتقدن متابعتنا للبرنامج، إذ نجدهن متابعات للتفاصيل التي نذكرها، ما يعني أنهن معجبات بالبرنامج، ولكنهن لا يفضلن التصريح بإعجابهن حتى لا يتعرضن إلى الانتقاد بين زميلاتهن».
فيما قالت أمينة محمد: زميلاتي يصوتن لبشار الشطي وكلهن يبحثن عن صوره في المجلات والمواقع الألكترونية وهن يتنافسن في ذلك، كما أن المنافسة في ستار أكاديمي تحولت إلى منافسة في المدرسة بين معجبات عطية ومعجبات بشار، وفي ليلة التصفيات كان انتصار وخذلان للطرفيين ومدعاة لتبادل التهاني أو عبارات الزعل جراء الخسارة».
مقاييس الأشياء
على الطرف الآخر كتب زاهر العريضي في مقال عنونه بـ «الثقافة مقياس رقي الأمم » أن ما نراه اليوم وما نسمعه يجعلنا نقف وقفة تأمل لنستعيد بها دراسة واقعنا الثقافي والاجتماعي، والاتجاه السلوكي الذي يسير به مجتمعنا. ولربما هنالك آراء متعددة، فما تراه مجموعة معينة شيئا خاطئا، يراه آخرون عين الصواب. لكن تبقى هناك مقاييس للأشياء، وهذه المقاييس يحددها المجتمع والامتداد التاريخي والثقافي لهذا المجتمع(...) فإما أن يرفض، وإما أن يقبل هذه الأفكار. وهذه الاحتياجات الفكرية التي تغزونا كل يوم في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ولقاءاتنا وشوارعنا، جعلتنا شعبا مستهلكا للأفكار بامتياز، نقبلها بسرعة فائقة، نرفع شعاراتها، نخاصم ونعادي من أجلها. وذلك من دون إعطاء أية فرصة لذاتنا، لتحليلها وتقييمها أو لطرحها على طاولة القبول أو عدم القبول، فتتراكم المشكلات وتصبح آفاق الحوار سطحية غير نابعة من خلفية عقائدية أو ثقافية فكرية. فبقدر ما تكون الفكرة سطحية وسخيفة يكون لها رواج وانتشار سريع. لذلك نتساءل: هل أصبحت عقولنا خاضعة للأفكار السطحية والسهلة؟ هل تعودت على هذا النمط من السخف؟ أم ان المشكلة أكبر من ذلك؟.
الرحابنة والثقافة الجديدة
ومضى يقول: «الواقع ان شعبنا تجاهل النتاج الفكري والإبداعي الذي قدمه هذا المجتمع، وطمس ذكرى مئات المفكرين والمبدعين، فتناسى ما قدمه جبران خليل جبران وحسن كامل الصباح، وما أبدعه الرحابنة وفيروز ووديع الصافي، وما ضحى به رجال المقاومة وشهداؤنا الخالدون ... واستبدل ذلك الكنز «بثقافة جديدة» هي ثقافة الـ «سـوبر ستار» و«سـتار أكاديمي».
ومن الرأي النقدي إلى استطلاع الرأي، إذ أجرى أحد المواقع الالكترونية التربوية استطلاعا طرح فيه السؤال الآتي: هل ترى أن لبرامج البث الواقعي كـ «ستار أكاديمي» وغيره من البرامج تأثيرا سلبيا على سلوكيات الأسرة العربية؟
فكانت النتائج أن «وافق بشدة» 78 في المئة من مجموع العينة على ذلك، فيما اكتفى ما نسبته 10 في المئة من العينة على «الموافقة» فقط و10 في المئة على الموافقة إلى حد ما و2 في المئة قالوا «لا أدري». وفي موقع آخر طرح سؤال: هل أنت مع أو ضد برامج تلفزيون الواقع؟ فقال 23 في المئة بواقع 588 صوتا إنهم مع هذه النوعية من البرامج ويشاهدوها باستمرار، فيما قال 38 في المئة بواقع 964 صوتا إنهم ضد هذه البرامج ولا يشاهدونها.
وقال 29 في المئة بواقع 742 صوتا إنهم لا يبدون اهتماما ولكنهم يشاهدون تلك البرامج من باب التسلية، وقال 7 في المئة بواقع 195 صوتا إنهم غير مهتمين ولا يشاهدونها إطلاقا.
مع كثرة الكلام واحتدام الصراع بين المؤيدين والمعارضين، يبقى الحال على ما هو عليه إلى ان يعرج إلى زاوية مختلفة، فإما أن تتحول برامج البث الواقعي إلى برامج عديمة القيمة كما هو الحال في أوروبا، وإما أن توحد العرب المنقادين إلى ملئ ساعاتهم وأيامهم ولياليهم بالفراغ.
أكدت مصادر إعلامية من فريق إعداد برنامج «سوبر ستار 2» وفق دراسة لردود الفعل ان ما لا يقل عن ستة ملايين مشاهد سيتابعون البرنامج.
- بلغ عدد المشاركين في «سوبر ستار2» 83 مشتركا من 15 دولة عربية تم اختيارهم من اصل 40 ألف مرشح.
- ينقسم المشاركون في «سوبر ستار 2» للعام 2004 الى 32 فتاة و51 شابا من لبنان وسورية ومصر وفلسطين والعراق والأردن والكويت والإمارات والبحرين والسعودية والمغرب وتونس والجزائر وليبيا وسلطنة عمان.
- يذكر أن 4,8 ملايين عربي شاركوا بالتصويت في نهائيات «سوبر ستار 1» المقتبس عن البرنامج البريطاني «بوب ايدول»
العدد 579 - الثلثاء 06 أبريل 2004م الموافق 15 صفر 1425هـ