العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ

«قناة الحرة»... أكثر تحفظا وأقل تضليلا!

عبدالحكيم الصبحي comments [at] alwasatnews.com

من ولاية فرجينيا الأميركية أطلق البث الفضائي القناة الناطقة باللغة العربية، والموجهة أساسا إلى الوطن العربي، والقناة توائم إذاعة «سوا» الإعلامية الأميركية الموجهة أساسا إلى شباب المنطقة... كل ذلك من أجل تحسين صورة أميركا في عيون العرب!

67 مليون دولار لتحسين صورة أميركا، ومئات المليارات من الدولارات لتدمير فلسطين والعراق، وتهديد بلدان أقطار أخرى من الوطن العربي الكبير، وبلدان الوطن الإسلامي الأكبر، فأيهما أكثر تأثيرا على الوعي العربي للصورة المرسومة في الذهن عن أميركا؟!

لا أظن أن المفكرين الاستراتيجيين والساسة الأميركيين بهذا القدر من السذاجة، بحيث لا يفقهون أن هناك خللا جسيما واضح المعالم في تلك المعادلة غير الرياضية، إلا إذا ظنوا بأن تحرير تلك المعادلة ممكن بين شعوب تتمتع بالمستوى نفسه من الأمية الفكرية والأخلاقية للأنظمة العربية، واجهة الدول العربية التي تتعامل معها أميركا مباشرة. فمن حيث التوقيت، أتى إطلاق البث الفضائي للقناة في أسوأ زمن لأميركا في نظر المواطنين العرب، نتيجة جرائمها ضد شعب العراق.

قبل عقد التسعينات، عقد إطلاق القنوات الفضائية الأجنبية، وفي منتصفه تقريبا القنوات العربية، كان المواطن العربي يتوق شوقا وحماسة للإنتماء إلى هذا العصر، والتمتع بإعلام حر يمتاز بالمهنية ويعرض الخبر على حقيقته، ويستمع إلى التحليل العميق والمنطقي لمجريات الحوادث، والنقد الموضوعي وما يقابله، وببساطة يعرف على الأقل أن هناك رأيا ورأيا آخر! بدلا من الإعلام العربي المدبلج - الناطق بالعربية والغربي المضمون - والتي لا تحسن فيه الأجهزة الإعلامية العربية إلا النقل وبالقدر والشكل المسموحين، وليست صناعة الخبر، وأية حوارات أو تحليلات يدوران في فلك التسبيح بحمد الأنظمة من قبل الإعلاميين العرب والمثقفين أو أنصاف المثقفين، إلا أن قناة الجزيرة الرائدة - على رغم ما قيل عنها وسيقال - قد وفرت ذاك النوع من الإعلام إلى حد كبير، وفرضت موقعها على الساحة الإعلامية الدولية، ولم يحد من حريتها إلا الضغوط الأميركية فيما يتناقض مع توجهات السياسة الأميركية والتغطية الإعلامية في موقع الحدث، تارة بالضغوط السياسية لتحجيم الحريات، وتارة بالتدمير والقصف المباشر كما حدث في أفغانستان والعراق لمكاتب «الجزيرة». ثم تبع ذلك إطلاق قنوات فضائية عربية منافسة، ولاسيما «أبوظبي» و«العربية» وبعض الفضائيات اللبنانية، ما فوّت الفرصة على قناة «الحرة» من حيث السبق والريادة، وشدة الجذب بالانبهار، فكان توقيتا متأخرا.

وعلى رغم العناية الفائقة في المظهر العربي للقناة، فإن المضمون أميركي تماما مثل الإعلام العربي المدبلج الذي لم يحسن إصلاح المضمون والأسلوب، كما لم تحسن إدارة قناة «الحرة» اختبار المضمون والأسلوب المناسبين... فمن حيث المضمون فإن لصدقية الوسيلة الإعلامية ثلاث دعائم أساسية: الدقة، الموضوعية، الحيادية، ولا يحتاج أي مشاهد إلى بذل الكثير من العناء والجهد لاكتشاف أن القناة تفتقر إلى هذه الدعائم الأساسية، وذلك من خلال ما يعرض من أخبار أو برامج حوارية متنوعة، فهي تركز على ثقل الفعاليات العربية التي تقام داخل الولايات المتحدة، في إشارة إلى مساحة القبول والتسامح داخل المجتمع الأميركي، بينما - وهذه حقيقة ماثلة أمام أفراد المجتمع العربي أين ما حل - المواطن العربي غير مُرّحب به ويعامل بعنصرية وتمييز، ناهيك عن نظرات الشك والريبة. وتحسين الصورة الأميركية فعليا لا يحتاج إلى الإشارة التي سبق ذكرها، بقدر حاجته إلى المعالجة الموضوعية لمثل هذه التصرفات في إطار دور إعلامي توعوي حقيقي وتثقيفي يساند قانونا يجرم التمييز والتعدي على الآخرين ويكفل الحماية لهم بالداخل، ويكفيهم الشرور بالخارج، ومنظومة أخلاقية إنسانية من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة.

ولاية فرجينيا الأميركية موطن بث القناة الفضائية، إلا أن ميادين العمل والعاملين في مواطن أخرى يتم اختيارهم بانتقائية شديدة، ناهيك عن الموضوعات المنتقاة، ما يعني أن الإدارة أميركية خالصة لم تترك لأيدٍ عربية! ولذلك سلبياته في تحقيق الهدف - سنأتي على ذكرها لاحقا - تركز القناة على نقل الفعاليات من داخل الأقطار العربية والإسلامية التي تتناغم مع السياسة الأميركية - هناك حزمة من الأوامر الأميركية لجميع الدول العربية يجري تنفيذها بمثابرة من قبل الأنظمة - كما تركز على نقل صورة مشوهة عن المجتمعات العربية من الزوايا المعتمة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، وحالات الفقر المدقع، وهذه حقيقة ولكن ليست كل الحقيقة. كما أن المجتمعات الأخرى ليست في رفاهية كاملة، وتحرص على إبراز دور مدِّ يد العون من قبل منظمات وهيئات معروفة أهدافها ودوافعها، بينما تتجاهل دور المنظمات والهيئات الأهلية التي تعمل الإدارة الأميركية جاهدة على تجفيف منابعها بحجة تمويل الإرهاب من دون تمييز، وربما بقصد الإبقاء على حال الفقر المدقع لتهيئة الأرض والأجواء لتطبيق سياساتها، والقناة بهذا الخطاب لم تفرّق بين المخاطب بالإعلام المنمق لتزوير الحقائق بقصد التضليل، وبين المجني عليه الذي لا يرى إلا إعلاما مشوها للحقيقة لا يستسيغ رؤيته.

أما من حيث الأسلوب في العرض فقد أتى على الطريقة الأميركية في الإيقاع والرتم السريع، والوتيرة المتسارعة في العرض، وذلك يرجع إلى كون إدارة القناة أميركية خالصة، لم تستطع التفريق بين الخصوصية التي تعوّد عليها المشاهد العربي، وأن العربي المهاجر إلى أميركا ليس معيارا للقياس، فهناك لا بديل عن مشاهدات القنوات الغربية والتعوّد على الأسلوب تماشيا مع وتيرة الحياة اليومية، وخصوصا قبل بث القنوات الفضائية العربية، أما المشاهد العربي في وطنه فيجد البديل وبالتالي فإن تعوده أو تأقلمه مع قناة تعرض بطريقة مختلفة وإن كانت تحمل سمات عصرية - بحسب الاعتقاد - أمر يحتاج إلى مرحلة زمنية معينة وظروف مواتية تكون فيها صورة أميركا أكثر قبولا.

إن نظرة فاحصة لأسلوب الترويج الإعلاني عن القناة التي تبثه كفواصل بين البرامج المقدمة ينم عن عقلية (السوبرمان) الأميركية، فهناك - قطعا - فرق بين الإعلانات للترويج عن سلعة تجارية وبين الترويج عن السياسات لتسويق فكر معيّن وثقافة، بأسلوب قائم على محاكاة العقل يسيَّد فيه المنطق قبل العاطفة. المطلوب إشعار المتلقي لإدراك حقائق ووعي بفائدتها ومن ثم ضرورتها، كون ذلك أقرب إلى العقل من القلب وإن دخلت من بوابته واستقرت في الوجدان، فالقناعات تبقى إدراكا ووعيا تتلقاها المذكرة قصيرة الأجل وتستقر معمرة في الذاكرة طويلة الأجل، أما قلب الحقائق الماثلة أمام الأنظار ووعي الأذهان لا يغطيها إلا العمر السياسي يسانده عهر إعلامي، ينفع معه أسلوب الترويج التجاري... ولكن البضاعة كاسدة وستظل كذلك!

على أية حال، ومن باب عدم التنكر، فإن إدارة القناة راعت الذوق العربي في بعض الجوانب، من حيث إنها قناة تبث لدول عربية تنشد تحسين صورتها، لابد من أن تتولد القناعة لدى المشاهد باحترام القناة للعادات والتقاليد المرعية في المجتمع العربي في مظهر مقدمي الأخبار والبرامج، فإحداهن (السمراء الحسناء) بدت أكثر حشمة في الملبس وأقل ميوعة في الحديث، من السابق عندما كانت تعمل في قناة عربية تبث إرسالها من دول عربية!

مهنيا، القناة تقوم بواجباتها على أكمل وجه... ولكن يمكن للماكينات الإعلامية التعتيم وتضليل الرأي العام الأميركي في الداخل وخصوصا عن الجرائم التي ترتكب يوميا بحق الشعوب المستضعفة وخصوصا في فلسطين والعراق وأفغانستان، ولكن لا يمكن للماكينات الإعلامية أن تعتم وتضلل الرأي العام العربي المكتوي بنيران السياسة الأميركية الباطشة والمنحازة. صحيح أن هناك قلة قليلة من المثقفين وأنصاف المثقفين العرب يهللون ويباركون السياسات الأميركية بدعوى الإحباط واليأس من الأنظمة العربية، إلا أن حال الإحباط واليأس عمّت كل الشعوب العربية، فالمهللون دوافعهم وأجندتهم مختلفة (العراق مثلا وأكراد سورية على الطريق) أما الفئة الأخرى من العرب فلا خوف عليهم من الانسياق وراء الرغبات الأميركية لمجرد التضليل الإعلامي والوعود البراقة، هم بطبيعة الحال وطنيون مدركون للواقع وإن عجزوا عن المعالجة، كذلك هم محصنون ضد التضليل حصانة بالغة بجرعات متتالية من التضليل في الإعلام العربي طيلة عقود من الزمن، فلا أحد يتقن التضليل والتدليس والتملق مثل الماكينات الإعلامية العربية الرسمية، بل إن الإعلاميين العرب عادة ما يكونون كرماء إلى حد البذخ في التضليل وتسويق سياسات الأنظمة أكثر بكثير من المطلوب.

مهما بلغ الإنفاق من ملايين الدولارات، وجندت الإمكانات التقنية والمهنية، وبدا أن هناك تراكما معنويا إيجابيا لصالح تحسين الصورة، فإن مجرد خرق جدار الصوت في الجنوب اللبناني من قبل طائرات العدو الصهيوني والمصنوعة في أميركا يزيل هذا التراكم بل يقلبه رأسا على عقب، فكيف إذا كان المشهد اليومي إراقة دماء أطفال في مراقدهم في فلسطين، أو قصف حفل عرس تروح ضحيته عائلة بعدد من الأفراد، أو عاهات مستدامة لأبناء الشعب الأفغاني، فأية صورة تريدنا الإدارة الأميركية أن نرى أو نعي؟

العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً