المواجهات المدنية التي امتدت في العراق من جنوبه الى وسطه وبعض شماله عشية الذكرى الأولى لسقوط بغداد تؤكد مسألة أساسية وهي: ان الاحتلال فشل في تحويل فوزه العسكري الى انتصار سياسي. فالانتفاضة الممتدة في البصرة والنجف والناصرية والشعلة ومدينة الصدر والكاظمية والفلوجة والموصل تشير إلى مسألة أخرى، وهي: ان الشعب العراقي في مختلف مناطقه وطوائفه بات على مسافة واحدة من رؤية الأهداف الحقيقية التي جرى من أجلها الغزو الأميركي.
رسالة الشعب العراقي عشية سقوط بغداد كانت واضحة في معالمها السياسية، وهي توحده مجددا على قاعدة مشتركة تضغط لدفع المحتل لتجميع قواته والخروج من البلاد.
خروج القوات الأميركية لن يكون سهلا. فالولايات المتحدة التي تحدّت الإرادة الدولية وخالفت مجلس الأمن وضحّت بسمعتها وصدقيتها لن تخرج بسهولة من أرض اعتبرتها ادارة جورج بوش «غنيمة حرب». أميركا ستقاتل من أجل الدفاع عن مصالحها المرتبطة بوجودها العسكري ولذلك يتوقع أن تكون الأسابيع والشهور المقبلة شديدة الصعوبة على الشعب العراقي لأن الاحتلال سيلجأ خلالها الى استخدام كل ما لديه من وسائل عنف وايقاع أكبر كمية من الضحايا لإرهاب العراق وشعبه.
الإفراط في استخدام القوة هو عنوان السياسة الأميركية في الفترتين الفاصلتين، الأولى تبدأ من الآن الى فترة الانسحاب الجزئي وتجميع القوات في نهاية يونيو/حزيران المقبل. والثانية ستبدأ من مطلع يوليو/تموز المقبل الى موعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وعلى امتداد هذه الفترة الحامية في مناخها وغضبها السياسي سيشهد العراق الكثير من التوترات والمواجهات الساخنة في عشرات «المثلثات» المنتشرة على طول بلاد الرافدين وعرضها.
خطورة ما حصل ويحصل في العراق في الأيام الأخيرة لا تدركها ادارة مغفّلة تسيطر عليها حفنة من الايديولوجيين العنصريين. وادارة الاحتلال لا تدرك، كما يبدو من تصرفات راعيها بول بريمر، الأبعاد العميقة لكل تلك التصرفات المجنونة والتصريحات غير العاقلة ضد مراجع دينية تتمتع بشعبية وشرعية تقليدية ممتدة في أكثر من مدينة ومنطقة.
إدارة واشنطن التي مر على احتلالها قرابة سنة يبدو أنها لم تتعلم من فشل تجربتها ولم تتوصل الى ابتكار أدوات ذكية وواقعية للتعاطي مع تعقيدات بلد مثل العراق. فالادارة مصرّة على تنصيب جماعتها التي استوردتها معها من لندن وواشنطن وعواصم الغرب في مواقع تضمن لوجودها الاستمرار. بينما الوقائع تشير الى أن رهان الادارة الأميركية على أدوات طيّعة ومطْواعة لا يفيد مصالحها بل يجلب لها الضرر ويوسّع رقعة المتضررين من الاحتلال. ادارة واشنطن عشية السنة الأولى على الاحتلال تبدو مصرة على الأخطاء التي ارتكبتها وترى ان من يقول لها «نعم» هو الشخص الموثوق في النظام البديل الذي ترتب قواعده قبل رحيلها المؤقت.
والادارة مصرة على أن القوى التي ترفض التعامل معها هي مراجع وعناصر غير عراقية أو مدفوعة بأهواء خارجية. وهذا عين الخطأ. وبسبب تراكم هذه الأخطاء وصل الاحتلال الى شفير مواجهة عامة مع مختلف قطاعات الشعب العراقي، كذلك ظهرت أكاذيب ادارة الغزو من خلال تساقط كل الذرائع التي استخدمتها للتشهير بالمقاومة وتشويه سمعتها. فالاحتلال منذ اليوم الأول لسقوط بغداد يصر على ان الشعب العراقي في مختلف مناطقه وطوائفه ومذاهبه مؤيد لواشنطن باستثناء قلة قليلة. وهذه «القلة القليلة» احتار الاحتلال في تصنيفها وتوضيحها. فمرة يقول انها بقايا «نظام صدام» ومرة مرتزقة نجحت في التسلل من خارج الحدود، ومرة شبكة لها صلات سرية مع تنظيم «القاعدة»، ومرة يطلق عليها «المثلث» «السني» لدق اسفين الطائفية والمذهبية بين أهل العراق.
الآن وبعد مرور حوالي سنة على الاحتلال تبين ان هذه «القلة» ليست قبيلة، وان المثلث الواحد أصبح مثلثات ممتدة في مختلف المناطق، وان المقاومة هي في النهاية عراقية قلبا وقالبا وسببها يعود الى أمر بسيط وبديهي هو غزو العراق واحتلاله.
حتى الآن تبدو ادارة الاحتلال مصرة على تكرار الكلام الغبي عن المقاومة. وآخر الكلام أخطره. فوكيل الاحتلال (بريمر) وصف المرجع الديني مقتدى الصدر بأنه رجل خارج على القانون. فهذا الكلام يؤكد من جديد غباء الاحتلال. ويؤكد أن المفاهيم التي تحرك عقول إدارة واشنطن مقلوبة على رأسها. فأبسط الكلام ان الاحتلال هو الطرف الخارج على القانون وخصوصا ان كل القوى الدولية والمواثيق الشرعية تشير الى أن الحرب على العراق تفتقد الى الصدقية والمشروعية وانها مخالفة للارادة الدولية. والمواجهات المدنية التي امتدت من الجنوب الى الوسط وبعض الشمال هي الدليل على معادلة جديدة.
لا شك أن القوة العسكرية مع الاحتلال والحق مع العراق. وما نراه اليوم هو مشهد من مشاهد المواجهة بين قانون القوة وقوة القانون... وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح والغلبة مهما طال الزمن ستكون لمصلحة المقاومة. وبقدر ما تزداد شراسة الاحتلال تقترب حرية العراق... وهذا ليس بعيدا
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 578 - الإثنين 05 أبريل 2004م الموافق 14 صفر 1425هـ