العدد 577 - الأحد 04 أبريل 2004م الموافق 13 صفر 1425هـ

كم يلزمنا لنتعلم أصول اللعبة؟

في ألوان «الطيش السياسي»

غسان الشهابي comments [at] alwasatnews.com

بدا المشهد المحلي مثيرا في الأيام القليلة الماضية، حينما بدأت الفعاليات السياسية، وعدد من الكتاب الصحافيين يغيرون لهجتهم الخاصة في إطار التعامل مع ما أسمي بالانفلات الأمني الذي حدث في بعض المناطق، والذي أتى متواترا، بعضها في المنامة، وبعضها في المدن والضواحي القريبة، وكلها تحت مسمى واحد، وهو مكافحة الفساد، الضرب بأيدي الناس في هذا الشأن تحت غطاء «تلكؤ» أجهزة الأمن في التصدي لهذه الخروقات، سواء تلك التي كانت تتمثل في بيع المشروبات الروحية من غير ترخيص، في بيوت تقع وسط الأحياء السكنية، أو تلك الشبكات التي تدير بيوت الدعارة وإيواء الهاربات من كفلائهن.

إذ تم التداعي أخيرا إلى إدانة العنف، بصيغ واضحة أو خجولة، والدعوة إلى عدم الاستماع والانقياد إلى الدعوات المجهولة المصدر الداعية إلى حشد الناس في قضايا معينة، تبدأ غالبا بشعارات تخص المناسبة، وتنتهي بمواجهة أشبه ما تكون بـ «تصفية حسابات قديمة» مع قوى الأمن المختلفة، وهذا ما يمكن رصده في تلك المسيرات الطلابية التي أبدت معارضتها في العام الماضي لضرب العراق وشن الحرب عليه، ولكن سرعان ما كانت الأمور تنقلب إلى أشكال أخرى من التعبير، وشعارات أخرى تطلق في الفضاء، وأهداف متنوعة تكون مرمى للسهام.

ويمكن تفسير وضوح دعوات نبذ العنف والحفاظ على المكتسبات التي تحققت في السنوات الأخيرة، التي انطلقت فيها المشروعات السياسية من دون خوف أو تردد تطرح نفسها على الساحة، والتي تم فيها «تبييض» السجون من كل معتقل سياسي، والتي... والتي، بيد أن خجل بعض الجهات من أن تجهر صراحة نبذها للعنف، مردّه أنها لا تزال تسير على النهج القديم في التعاطي مع السلطة التنفيذية، على اعتبار أن هذه السلطة هي ضد مصلحة الوطن بدءا، وبالتالي، لا يجوز تسجيل أي نقطة لصالحها، سواء كانت هذه النقطة واضحة صريحة، أم ضمنية مبطنة.

ولكن ما دفع إلى الخروج بهذه اللهجة في الوقت الراهن، هي تلك الإشارات الرسمية الواضحة جدا والتي صبت في صالح تعزيز وضع الجهاز الأمني، والدعوة الصارمة إلى وقف كل أنواع التجاوزات الأمنية، بما يشي بأن «خطرا» يوشك أن يقع ليقوض كل ما تمت المراهنة عليه، وينهي ما دأب المناوئون للعملية الإصلاحية من أساسها على تسميته بـ «شهر العسل» الذي عاشته المعارضة، والذي استمر ثلاث سنوات تقريبا.

ورجوعا إلى الفترة التي نشطت فيها المعارضة السلمية، وتشكلت فيها الجمعيات السياسية، يمكن لأي مراقب ملاحظة الدور الذي قام به الكثير من الأسماء المؤثرة في النزول إلى الشارع لتهدئة الأوضاع بعد انفلاتها، والعمل على عقلنة الشارع والتأثير الرمزي على الخارجين عن أطر الاحتجاج السلمي، وفي الوقت ذاته، التنصل من أية صلة للجمعيات في تأجيج الشارع، بدليل أن أقطاب هذه الجمعيات هي التي عملت على إخماد الفتن، وهي التي لولا نزولها إلى الميدان لساءت الأمور أكثر.

هذا الدور سيبدو مقنعا، لولا أن ما يدور من خطب وكتابات ملؤها الإحباط، والحلول التطرفية المطروحة، ومنتديات وندوات، تنتهي في عدد من الأحيان بشعارات تنطلق من حناجر الحاضرين، وافرة الدلالة على ما تمت تعبئة الجماهير به، لا يمكن معه أن يتنصل من يقود هذه النشاطات من توفيره المناخ المثالي للتهييج، وملء القلوب غلا ويأسا، إذ أن عددا لا بأس به من الأنشطة كان يخاطب العامة بما يجب أن يخاطب به الخاصة، وتكون الساحات العريضة مجالا له، بدلا من العصف الذهني الذي يديره أهل الاختصاص والحنكة، وبالتالي، لا تؤمن ردات الفعل الناتجة عن تلك الرسائل التي تصل إلى عشرات الآلاف من الناس الحاضرين أو المتابعين لهذه الأنشطة، فتبدو ساحة البعض بريئة ناصعة لأنه لم يدعُ «صراحة» إلى العنف، ولكنه في المقابل لم يؤسس إلى وعي جمعي يقوم على أن الدرب في نيل الحقوق طويل، وأن الأناة وترسيخ الوعي هو السبيل، وهو ما يمكن الرهان عليه.

لقد تمت في هذه الفترة عملية إنهاك كبيرة للقنوات القليلة المتاحة للتغيير والتعبير عن الرأي، وصار التدافع لتوسيع وتكثير هذه القنوات بشكل صبياني في بعض الأحيان، والاستعراض كان هو السيد، وكان من يقول إن «طين الإصلاحات لا يزال أخضر، فأرفقوا به»، يصنف في خانة المتبلبلين، ذلك لأن هذا القول يرمي إلى أننا لا نزال «نتعلم» الديمقراطية، وأن الديمقراطية ليست فقط صوتا يرتفع، وقبضات تلوح، وبلاغات كلامية، وملفات تفتح، ودعوات للمحاسبة والإقالات والاستقالات، ولكنها قبل ذلك سلوك يمارسه الناس فيما بينهم، وينتقل من القاعدة إلى قمة الهرم في حركة عكسية ديناميكية مستدامة، ولكن البعض يصر على أن يرى الديمقراطية والإصلاحات تأتي دفعة واحدة، ويجب أن تكون على غرار «الآن الآن وليس غدا».

إن المرونة التي تم التعاطي بها في السنوات الماضية مع كل ألوان «الطيش السياسي»، قد جلبت إلى الحكم في البحرين الكثير من النقاط الإيجابية، كما أن أطرافا من المعارضة العاقلة أثبتت أنها على قدر من المسئولية، وأسهمت بما لا يدع مجالا للشك بأن لديها رؤية ثاقبة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المستقبل إن تم إنهاك حدود التعاطي، والمضي في الاختبارات مرة تلو الأخرى لمعرفة المدى الذي يمكن أن يتوقف فيه كلا الطرفين.

إن الرهان اليوم على أن يعيد الأمر نفسه كما حدث قبل 30 عاما في المجلس النيابي، وأن يتم رفض أي قانون يعيد الحياة إلى قانون «امن الدولة» وإن بمسميات مختلفة ومبررات مغايرة يستبعد أن يتكرر، فلا نواب اليوم هم أنفسهم نواب الأمس، ولا الوقائع والظروف المحلية والإقليمية هي ذاتها، والرهان اليوم على أن السلطة لا تريد أن يتم تسجيل نقاط سوداء عليها في التقارير الدولية يمكن أن يتراجع إلى أدنى الحدود إن لم تحسن المعارضة إدارة نقاط الخلاف واختيار «ساحات الحرب» بشكل دقيق ومؤثر وبعيدا عن البعد العاطفي باستدراج الجماهير إلى ما هو غامض على كلا الطرفين، لأن الجماهير في النهاية هي التي «ستخوزق» إن أدت مساجلات كسر العظم إلى ما لا تحمد عقباه.

إن ما يمكن أن يؤسَّس عليه مستقبلا، هو ذلك الاتجاه العاقل في كل من المعارضة والسلطة على السوية، الجانب القابل للحوار لا إلى الاستعراض والتحدي، ليس شرطا أن يكون الطرفان حمائم وصقور، بل الرجاء إفساح مجال أوسع لسلطة العقل والمنطق والقانون والخضوع إلى هذه المعايير من غير ما شعور بمهانة «الإفحام» أو ذل «الهزيمة» وبالتالي المكابرة عليهما، فـ «الحق أحق أن يتبع»، والاثنان (السلطة والمعارضة) مطالبان بأن يقودا الوطن وسط المنافسات الإقليمية التي لا تكل من استعراض نفسها في سباق استقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية، ولا يخفى تأسيس هذه المنافسات على ما يجري في البحرين، فكي تخرج نهائيا من المنافسة ويبقى المتنافسون أقل عددا، فلا مستقبل لهذا الوطن إلا بالاستقرار، ولا مستقبل له إلا بالتعاطي الإيجابي وليس التخويني والتخويفي بين جميع الأطراف، فمن لا يملك يومه كيف له أن يطالب بغده؟

إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"

العدد 577 - الأحد 04 أبريل 2004م الموافق 13 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً