العدد 576 - السبت 03 أبريل 2004م الموافق 12 صفر 1425هـ

المحافظون في الجمهورية الإسلامية ودوّامة الصمت

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

اعتمد اليمين المحافظ في السياسة (وفي الدين أحيانا) بصورة رئيسية على مُطلقية الذات في إثبات النظم الاجتماعية التي تتركز كلها في سلطة واحدة قممية، تتصف بكل صفات المطلق سواء كان ذلك في السلطة السياسية للزعيم أو السيطرة الاقتصادية لرأس المال، وبالتالي تكوّن نظم تسلطية تجعل القمة في السياسة أو في الاقتصاد مصدر النشاط والحركة والقيمة على حساب القاعدة المتلقية السالبة المأمورة وهو ما يُعطي الجماهير نوعا من الاستكانة والارتكان عليها والاعتماد على سلطاتها، فحين يضيع كل شيء تراه (أي اليمين) يتنرجَس لذاته أو لمن يُدين بالولاء له ومن ثم يكون مفقودا وهو يظن أنه واجد لنفسه وهي الثقافة ذاتها التي ولّدت النظم الرأسمالية كوريث شرعي لليمين الليبرالي وبعدها التأكيد على إنسانية الغرب دون غيره من الشعوب.

ولكي لا أكون أكثر جزالة في التوصيف النظري والبنائي للمفهوم، والذي نَظَرَ فيه بعمق الكثير من المفكرين أبرزهم الدكتور حسن حنفي، أرى من اللازم إسقاط ما ذكرته على ما أردت التركيز عليه اليوم بشكل نقدي بشأن تيار اليمين المحافظ في الجمهورية الإسلامية، فهذا التيار السياسي قد نشأ بقوة دفع ثورية سيطرت على الذهن الإيراني (الإسلامي) قُبيل انتصار الثورة الإسلامية وبعدها وساعده على ذلك تأصّل الكاريزما التي فرضتها شخصية الإمام الخميني (رض) القوية، إلاّ أن الأطر التنظيمية والفكرية له قد بدأت في التشكل فعليا في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي وهو تاريخ بروز رابطة علماء الدين المناضلين (روحانيت مبارز) التي قادت حركة الاحتجاج الشعبي ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي في السنتين اللتين سبقتا انتصار الثورة الإسلامية، وعلى رغم حال الفرز المتعدد في الرابطة (الحزب الجمهوري برئاسة الشهيد بهشتي مثالا) واليُسرويّة (روحانيون مبارز برئاسة الشيخ كروبي) التي شرخت بُنيتها إلاّ أنها بقيت متماسكة بفضل عوامل كثيرة، فالوقائع تشير إلى أنه على رغم انفتاح الساحة الإيرانية وصيرورتها كحال حاضنة للحركة السياسية والمدنية، فإن فكرا يمينيا متطرفا بدأ في التنامي أكثر من رحم الرابطة نفسه ومن شرائح اليمين عموما، الأمر الذي ولّد حالا سياسية وحزبية ومفاهيمية مأزومة لطريقة التعاطي مع ملفات الداخل والخارج، والغريب أن ذلك الفكر وعلى رغم اتسامه بسلوك سياسي فج وجامد ظلّ يستعين بعقول محسوبة على الشريحة التكنوقراطية بغية رفده بالتنظير اللازم لمسيرة حركته الاجتماعية، وهو لحاظ متكرر في مسيرة المتعاطين مع الحدث السياسي والديني حين يقومون بإعمال العقل وإجهاده من أجل إيجاد فقه ذرائعي تسويغي لأفعالهم .

وفي مرحلة تولي اليمين المحافظ للسلطتين التشريعية والتنفيذية معا (إلى حد ما) بُعيد انتخابات المجلس النيابي الرابع في 1992م وخروج اليسار الديني الراديكالي من الحكم مترهلا بدأت عملية فرز جديدة لصفوف المحافظين حين أخذت حال الاصطفاف السياسي واستحقاقاتها تفرض تحوّل قطاعات متعددة من الذوق نفسه إلى خانة المناكفة والصدود بصورة طردية، وفي غمرة ذلك الاصطفاف بدأ أقصى اليمين في كيننة قواه البشرية وتشكيلاته بقوة مستعينا بشعاراته الثورية المُفرطة التي أشبه ما تكون بميتافيزيقيا وهمية، ومرة بإمساكه بمنابع الدولارات المتدفقة إليه من الطبقة المخملية والبازار الإيراني (الذي يستحوذ على أكثر من 75 في المئة من التجارة الداخلية وحوالي نصف الواردات، ويقوم بدور مهم في عملية الإقراض، وبتجارة تمتد إلى أكثر من 200 هكتار وسط طهران التي تضم (30) ألف متجر تتوزع على 33 نشاطا تجاريا مختلفا) والمتحالف أصلا مع جمعية المؤتلفة الإسلامية برئاسة عسكر أولادي وهي البناء الفعلي لتيار اليمين المحافظ.

وبعد بروز هذا الكيان لتيار أقصى اليمين وتمكنه من الدخول في جماعات سياسية واجتماعية واقتصادية كثيرة تعمل في الساحة الإيرانية كجماعات حزب الله وخازان زينب وألوية كربلاء، بدأت تتعالى أصوات كثيرة حتى من داخل يمين الوسط بضرورة ترويض هذه الجماعات ومحاولة تشذيبها وعقلنتها، وكان أبرز تلك الأصوات هو الدكتور طه الهاشمي ممثل الولي الفقيه في الحوزة العلمية في مدينة قم وصاحب امتياز صحيفة انتخاب واسعة الانتشار الذي نادى بضرورة ضبط هذا الانفلات اليميني الخطير داعيا إلى إجراء عملية تجديد ومُراجعة لأطر ومُدونات تلك الجماعات ومنها جمعية المؤتلفة، وفي عملية استذكار مشهدية لحال ذلك الانفلات يُمكن أن نقول أنه وقبل نهاية العام 1999 عندما نشرت صحيفة «موج» الطلابية نصّا مسرحيا لطالبين من جامعة طهران وُصِفَ بأنه تهكّم مُبطّن ضد الإمام المهدي (ع) وقف أحدهم قبيل صلاة الجمعة في طهران وقال «إذا لم يقم القضاء الإيراني بإعدام الطالبين فإنني سأخنقهما بيدي» وهو موقف خطير حدا بالإمام الخامنئي بأن يُلقي خطابا من على المنبر نفسه يُحذر فيه من تطبيق القانون بصورة فردية وأن الأحكام الجزائية وغيرها من مسئولية القضاء فقط، وفي مارس/ آذار 2001 قام سعيد حناني وهو يميني محافظ متطرف بقتل أكثر من ستة عشر مومسا في مدينة مشهد المقدسة، وعلى رغم أن ذلك العمل لقي ترحيبا من أهالي المدينة إلاّ أن الغريب هو أن بعض قيادات أقصى اليمين الدينية والسياسية رحّبت بذلك العمل، واعتبرته نهيا عن منكر وأمر بمعروف، والأغرب من كل ذلك هو موقف عدد من تجار البازار في مدينة مشهد (مركز محافظة خراسان) الذين ابدوا استعدادهم لدفع الدّية الشرعية لأهالي القتيلات المتهمات بممارسة البغاء مقابل العفو عن المتهم، ثم تطور الأمر أكثر حين أعلنت منظمة مجهولة أطلقت على نفسها «منظمة المناضلين ضد القيم غير الإسلامية» أنها ستتصرف بطريقتها إذا لم تتخذ حكومة الرئيس محمد خاتمي إجراءات عملية تحدّ من انتشار الرذيلة، وهي جميعها مواقف تُفصح عن تصاعد خطير في التشدد ومحاولة تطبيق الموازين الإسلامية بارتجال وردات فعل ليس إلاّ.

وفي يوليو/تموز 1999 اقتحمت مجموعة من أولئك النفر سكن الطلبة في الحي الجامعي بطهران وانهالت على الطلبة ضربا بالهراوات بسبب قيام مكتب «تحكيم وحدت» الطلابي (إصلاحي متطرف) على تنظيم حركات احتجاجية ضد ما اعتبروه «سياسة إجهاض للمشروع الإصلاحي» تقوم بها المؤسسة المحافظة، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الحوادث بصورة خطيرة ولمدة أسبوع حين دخلت في اللعبة أطراف انتهازية (كما سمّاها الرئيس خاتمي) مُوجّهة من واشنطن وبغداد، وأودت بحياة ثلاثة أشخاص، وبعد اجتماع المرشد الأعلى بالطلبة المصابين في المواجهة والصلاة بهم جماعة قال في محضرهم «قلت لهم (أي للمحافظين المتطرفين) مرارا لا تفعلوا أشياء تؤذي الآخرين حتى لو رأيتم صوري تُمزّق في الشوارع» بعدها أعطى أوامره للأجهزة القضائية لملاحقة ومحاكمة وإقالة المتسببين في الاضطرابات، فأقيل قائد الشرطة في طهران الجنرال فرهاد نظري بأمر قائد قوات الأمن في الجمهورية الإسلامية هدايات لطفيان بعد شهر ونصف على حوادث طهران بعدما اعتُبِر «مذنبا» ومعه عشرون ضابطا آخرين، كما أدانت لجنة التحقيق التي شكلها مجلس الأمن القومي سبعة من قادة الوحدات الخاصة في الشرطة وعددا من المتشددين الإسلاميين.

وأخيرا عندما قام المجلس البلدي لبلدية طهران الذي يُهيمن عليه المحافظون وذلك بعد طلب تقدمت به حكومة الرئيس خاتمي بتغيير اسم شارع خالد الإسلامبولي إلى شارع الانتفاضة؛ تنادت أصوات بائسة من أقصى اليمين تتهم أعضاء المجلس البلدي بأنهم خائنون لخط الإمام الخميني (رض) ولمبادئ الثورة، وقبل ذلك بثلاث سنوات نظّم عشرات من أنصار حزب الله تجمعا في شارع خالد الإسلامبولي وسط طهران طالبوا فيه علي أكبر ناطق نوري رئيس البرلمان الخامس بالاعتذار إلى الشعب «عن تصريحاته التي لم تستبعد تغيير اسم خالد الإسلامبولي» إذا اقتضت المصالح العليا ذلك «كما قام أحد قيادات اليمين المتطرف بوصف ناطق نوري في موضع وموقع آخر بأنه «من أصحاب الكروش المنتفخة» والغريب أن ناطق نوري هو من زعامات المحافظين إلاّ أنه لم يسلم من حنق تلك الجماعات البائسة.

وقد تطايرت في الساحة الإيرانية منذ عقدين خليا بفعل سلوكيات المتطرفين من اليمينيين شعارات التخوين وقصف العقول، وحرق الأشخاص فهم لا يقبلون إلاّ أفهامهم ومرئياتهم الفكرية والسياسية، بل ولا يعترفون بالكثير من الأحزاب والكتل السياسية العاملة بما فيها أطراف عدة في كيانات اليمين المحافظ نفسه، والأكثر أنهم يلجأون في أحيانٍ كثيرة إلى القوة لتثبيت آرائهم والضغط من الأسفل على القيادات الحزبية بسطوة الجماهيرية، وهو أمر اعتقد بأنه واجب النظر فيه الآن وبجدّية من قِبَل المعنيين في القيادات المحافظة العاقلة، وخصوصا أن التيار المحافظ قد وصل الآن إلى السلطة التشريعية بغالبية ساحقة (204 مقاعد) حاملا معه توجهات سياسية واقتصادية أكثر تحررا من السابق وهو ما يستلزم عليه إجراء عمليات جراحية ضرورية في كيانه السياسي وفي منتسبيه أيضا، على رغم أن مجلس صيانة الدستور قد سبقه في ذلك عندما قام (وفي خطوة شجاعة ) برفض زهاء 381 شخصا من المحافظين المتطرفين قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة في العشرين من فبراير/ شباط الماضي وهو ما اعتبر تقليما آخر لظاهرة التطرف في الجمهورية الإسلامية

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 576 - السبت 03 أبريل 2004م الموافق 12 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً