هناك ما يشبه الاجماع على أن الفكر العربي المعاصر يعيش في أزمة وجودية تهدد انهيار منظومته في حال لم ترفد بعناصر جديدة تنقذ هياكل الفكر من التفكك. هذه الأزمة تحدث عنها الكثير من المفكرين المغاربة (عبدالله العروي، ومحمد عابد الجابري، وهشام جعيط) والمفكرين المشارقة (طيب تيزيني، صادق جلال العظم، هشام شرابي، ورضوان السيد). وكذلك تناولها الكثير من الشعراء (أدونيس، ومحمود درويش) والباحثين في شئون هذا الحقل كما حاول مرارا محمد جابر الأنصاري.
إلى هؤلاء هناك العشرات من البحوث والدراسات يصعب حصرها في مقال صغير ولكنها تجمع على مختلف مشاربها ومذاهبها على وجود أزمة في الفكر المعاصر. فهناك من يربط أزمة الفكر بأزمة الحداثة نفسها ووصول التحديث العربي الذي قادته النخبة إلى مأزق تاريخي. وهناك من يربطها بوجود تناقض في جوهر الفكر العربي الذي مال إلى التوفيق أو «الجمع بين الأضداد» كما يذهب الأنصاري. وهناك من يربط الأزمة بقلة الابداع والميل نحو التقليد والاعتماد على الترجمة.
إذا هناك أزمة وأساسها يمتد إلى مجموعة أسباب موضوعية وذاتية تبدأ بطغيان النقل على العقل والتعامل مع الفكر وكأنه بضاعة (سلعة) تشترى وتباع، تستورد من الخارج ويعاد تصديرها أو تسويقها في الداخل وكأنها من انتاج (صنع) محلي.
المشكلة إذا متفرعة العناصر وجوانب الأزمة مفتوحة على أكثر من صعيد. حتى ذاك الذي يقال عنه «فكر النهضة» تبين لاحقا إنه في مجموعه العام مجرد أفكار مترجمة ومنقولة من كتب صدرت في الخارج وعرِّبت ونقحت وأعيد إصدارها وكأنها من تأليف الكاتب وهي في الحقيقة مجرد أفكار ترجمت بتصرف.
إذا هناك مشكلة حتى في تناول قضايا الإسلام في التاريخ. فمعظم الباحثين في الفكر الإسلامي استندوا على كتابات المستشرقين، ومعظم الكتاب الذين تناولوا الفلسفة الإسلامية مثلا أو تاريخ الدولة السياسي عادوا إلى كتب المستعربين وأخذوا منها ما أخذوه وأعادوا انتاجه وكأن الباحث العربي لا يعرف العربية ويحتاج إلى «مستشرق» أو «مستعرب» ليدله على تاريخه وتراثه وفلسفته.
طبعا يستثنى من هذه القاعدة الكثير من الباحثين اشتغلوا في حقول التاريخ والتراث والفلسفة من دون «واسطة» أجنبية أو توسط تلك الكتابات التي تناولت تاريخ الإسلام والمسلمين. هذا الاستثناء يؤكد القاعدة ولا يلغيها.
مثلا صدرت في بيروت في سبعينات القرن الماضي ترجمة كتاب ايف لاكوست عن ابن خلدون. وقام المترجم بتعريب نصوص (فقرات الاستشهاد) التي اعتمدها المفكر الأجنبي من المقدمة من دون العودة إلى كتاب ابن خلدون في نصه العربي. وكانت النتيجة كالآتي: لاكوست لا يقرأ العربية فقام بالاعتماد على الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون. وتبين لاحقا ان الترجمة الفرنسية اعتمدت على ترجمة انجليزية للمقدمة. أي أن لاكوست اعتمد على ترجمة مترجمة عن النص الأصلي (العربية). وبعدها جاء المترجم (العربي بامتياز) بنقل النص الفرنسي إلى العربية بما فيها تلك النصوص (مقاطع ابن خلدون) المختارة من المقدمة. وهكذا خرجت أفكار ابن خلدون عن سياقها وزمانها وعادت الينا المقدمة مترجمة عن نص فرنسي مترجم بدوره عن نص انجليزي. الكلمات مختلفة، الصوغ مختلف، المفردات لا علاقة لها بالمصلطحات التي اشتهر ابن خلدون بها.
باختصار كانت النتيجة صدور مقاطع من مقدمة ابن خلدون تقارب أفكاره وليست لها علاقة بالنص الأصلي.
والفضيحة الأكبر أن هناك الكثير من تيار «الحداثة» يستشهد بأفكار ابن خلدون بالعودة إلى كتاب لاكوست المترجم عن الفرنسية من دون أن يزعج نفسه بالبحث عن تلك الأفكار في مقدمة ابن خلدون المتوافرة في معظم المكتبات العربية.
هذا النوع من «الكسل» يدل على مدى استخفاف المثقف العربي (غالبيتهم العظمى) في التعاطي مع شئون الفكر وتحديدا في الحقول التي تتناول الكثير من المفاهيم الخطيرة ذات الصلة بالتاريخ والإسلام والفقه.
الأمر نفسه يمكن تطبيقه على أكثر من مسألة. حتى تلك الشئون المتعلقة بالتصنيف الغربي لموقع الإسلام ودوره الحضاري. هناك مقولة أطلقها هيغل عن العرب (والمسلمين) وهي أن الحضارة العربية (الإسلامية) حضارة جامعة وغير مبدعة. فهي برأي هيغل نقلت الإبداع عن محيطها وجيرانها، وقامت بترجمته وحفظه حتى جاءت أوروبا وأسردته. فالعرب برأي هيغل شعب غير مبدع ولا يبتكر وإنما ينقل ويجمع ويحفظ ولا يضيف إلى الموجود جديدا.
وابتكر هيغل لتبرير مقولته فكرة «الجسر». فالعرب برأيه هم مجرد جسر (تجار) ينقلون ابداعات غيرهم من ضفة إلى أخرى. وبالتالي فهو يريد أن يقول إن الحضارة العربية ليست عربية فهي منقولة (مترجمة) وأوروبا أخذت من العرب ما هو أصلا منقول عنها.
فكرة «الجسر» التي ابتدعها هيغل نجدها مكررة عند كل فلاسفة أوروبا من القرن التاسع عشر إلى أيامنا. ومن كثرة تكرارها فُقد أصلها وأصبحت تتداول بين المفكرين الأوروبيين وكأنها حقيقة نهائية لا نقاش فيها وحولها. والفضيحة أن عشرات المفكرين العرب «الحداثيين» أخذوا هذه الفكرة (الجسر) وكأنها مسلمة تاريخية وتبنوها من دون نقاش، ونسجوا حولها الكثير من الأفكار المبهمة عن الفكر العربي (الإسلامي) وضحالة ابداعاته.
حتى تلك الأفكار المتعلقة بتصنيف المفكرين المسلمين وترتيبهم بين عقلاني وغير عقلاني، أو إعادة إدراج الفلاسفة المسلمين وفق نسق تاريخي تتابعي بين مفكر (مبدع) ومفكر سلفي أخذها المفكرون العرب (تيار الحداثة) عن كتابات المستشرقين والمستعربين من دون تدقيق أو اجتهاد في المسألة. فإذا قال المستشرقون مثلا إن الإمام الأشعري كان بداية نهاية الفكر العقلاني في العصر العباسي لأنه انشق عن المعتزلة ورد على مقالاتهم يكرر المثقفون العرب (الحداثيون) المقولة نفسها مع أن الوقائع تؤكد أن الأشعري أسس منهجية مستقلة في التفكير كان لها أثرها في اطلاق ثورة ثقافية في أدوات الفقه الإسلامي. ومثلا إذا قال المستشرقون إن الإمام الغزالي سدد ضربة إلى الفلاسفة المسلمين من خلال الرد على مقالاتهم بمقالات مضادة، يكرر المثقفون العرب (الحداثيون) المقولة نفسها فيهاجمون الغزالي من دون العودة إلى الابتكارات الفلسفية التي وضع أسسها المستقلة عن التفكير الإغريقي (اليوناني).
المشكلة مع المثقفين العرب (الحداثيون) تشبه إلى حد كبير مشكلة المترجم (العربي بامتياز) مع صاحبنا ابن خلدون حين نقل مقالاته عن الفرنسية إلى العربية بدلا من أن يذهب رأسا إلى أصولها ويوفر على نفسه عناء الترجمة والنقل. والنتيجة كانت أن المستشرقين (والمستعربين) أسهموا ليس فقط في صوغ ثقافتنا المعاصرة بل في ترسيم حدود تفكيرنا عن الماضي أيضا. فهل الأزمة فعلا أزمة فكر أم أزمة تفكير لها صلة بمنهجية التفكير في حاضرنا وماضينا ومستقبلنا؟
هذه المشكلة فعلا غير مفهومة ولا يمكن تفسيرها إلا بالكسل العقلي أو بتغليب عناء الترجمة والنقل على عناء البحث المستقل في كتب موجودة في مئات المكتبات والمعاهد. والمضحك في المسألة أن الأجنبي يأتي إلى المنطقة العربية من آخر الدنيا ويمكث فيها أربع أو خمس أو ست سنوات يتعلم خلالها قراءة العربية ويطلع على النصوص القديمة ويراجع تلك الكتب (التي يأنف الحداثيون الاطلاع عليها) ويعود إلى بلاده ويؤلف كتابا عن الفقه أو الفلسفة أو التاريخ الإسلامي ويعاد تصديره إلى أسواق المنطقة باللغة العربية منقولا عن الانجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو غيرها من لغات أجنبية.
هذه مشكلة فعلا ولكنها ليست مضحكة. المضحك هو ذاك الاجماع (أو ما يشبه الاجماع) على وجود أزمة في الفكر العربي المعاصر. والمبكي فعلا هو عدم تعرف غالبية المفكرين العرب على أجزاء غامضة من تلك الأزمة والتوصل إلى معرفة أسبابها الداخلية. وهذا جانب مضحك - مبكٍ من المسألة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ