بذل كبار المسئولين في البنتاغون المعنيين بمكتب الخطط الخاصة جهودهم لإزالة الشكوك التي تعاظمت حول دوره في استخدام ونشر المعلومات الاستخبارية. فقد كرر فيث تصريحاته التي شرح فيها بأن المكتب فحص علاقات ممكنة بين مجموعات إرهابية وأنه لا علاقة للمكتب بالعراق والبحث عن أسلحة دمار شامل. وقال إن المكتب «ليس مشروعا استخباريا» لكنه مجموعة تنظر في المعلومات الاستخبارية من وجهة نظر مختلفة.
ففي شهر يونيو/ حزيران 2003 عندما جرى استجواب فيث عن الموضوع نفسه في مؤتمر صحافي، اعترف بأن الوحدة السرية كانت تبحث في الحقيقة عن الارتباط بين العراق والإرهاب قائلا «إنك لا تستطيع الاعتماد على الردع للتعامل مع مشكلة أسلحة الدمار الشامل في أيدي الدول التي ترعى الإرهاب بسبب احتمال قيام هذه الدول التي ترعى الإرهاب باستخدام أسلحة كيماوية أو أسلحة بيولوجية عن طريق منظمات إرهابية تعمل بالوكالة عنها».
وعلى رغم أن فيث وصف في ذلك المؤتمر الصحفي وحدة وورمسر بأنها مشروع بريء و«ممارسة عالمية» لم يقصد منها ممارسة ضغط على وكالات الاستخبارات الأخرى أو إيجاد معلومات استخبارية محرفة لتتلاءم مع أفكار سياسية معدة مسبقا، ولكن الكثير من المصادر الأخرى تؤكد أن هذا هو بالضبط ما قامت به. وقد جرى الحديث على نطاق واسع بأن البيت الأبيض والبنتاغون مارسا ضغطا هائلا على الـ سي آي إيه لتتمشى مع ذلك في روايتها للحوادث. كما جرى تأكيد ذلك من خلال الزيارات التي قام بها إلى مقر الـ سي آي إيه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ورئيس هيئة موظفيه لويس (سكوتر) ليبي. والمحافظون الجدد بقيادة بيرل يكنون أعمق مشاعر الازدراء لـ «سي آي إيه. وقال بيرل إن تحليلات الـ سي آي إيه»، «لا تستحق الورق الذي تطبع عليه». وأضاف «إن الـ سي آي إيه متمسكة بالوضع الراهن... إنهم لا يريدون تحمل أية مجازفات». وهذه هي المقولة المقدسة للوحدة الاستخبارية الخاصة في مكتب فيث التي كان ينظر إليها باعتبارها «الوكالة-الظل» داخل وكالات الاستخبارات الأميركية.
إن وضع وورمسر مسئول عن تلك الوحدة الاستخبارية يعني أنها كانت تدار من جانب أيديولوجي مؤيد للحرب على العراق، وأمضى سنوات يدعو إلى غزو استباقي لبغداد بوضوح ليجد ما الذي يريد أن يجده. وقد أضيف الى النوعية المشكوك فيها في هذه المناورة شخص آخر هو مايكل معلوف، ليصبح شريكا لوورمسر، ومعلوف وهو أميركي من أصل لبناني، كان مساعدا لبيرل في البنتاغون في الثمانينات من القرن الماضي. وقد تم تجريده من تصريحه الأمني الخاص جدا مرتين في أواخر العام 2001 ومرة أخرى في ربيع 2003، في مسعى من البنتاغون الى تحميله مسئولية ترويج أكاذيب وحدة الاستخبارات السرية.
وذكرت مصادر البنتاغون في شهر أغسطس/ آب 2003 أنه تم تجريد معلوف من تصريحه الأمني، وخصوصا بعد أن تم الكشف عن علاقته أيضا مع رجل أعمال أميركي من أصل لبناني، هو عماد الحاج كان خضع لتحقيقات يجريها مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) بشبهة تورطه في خطة لتهريب أسلحة إلى ليبيريا الذي يعتبر انتهاكا للحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيريا، وأيضا علاقاته مع نظام الرئيس الليبيري تشارلس تايلور في تهريب الألماس. ويمتلك الحاج مؤسسة «أميركان أندررايت غروب» في ضاحية فيينا القريبة من واشنطن، ولها مكتب أيضا في بيروت. وقد نفى الحاج ذلك فيما بعد، لكنه اعترف بأنه اتصل مع معلوف لطلب مساعدته في ترتيب قنوات اتصال بين سورية والبنتاغون.
وقد نظر إلى قضية معلوف باعتبارها جزءا من معركة أكبر في حكومة بوش حول السيطرة على الاستخبارات والسياسة الخارجية، إذ كانت القيادة المدنية للبنتاغون بزعامة رامسفيلد ونائبه وولفويتز ومكتب تشيني ومستشارة بوش للأمن القومي كوندوليسا رايس إدارة السياسة الخارجية الأميركية وخصوصا في المنطقة بعيدا عن القنوات الدبلوماسية الثابتة لوزارة الخارجية الأميركية، على أساس معلومات استخبارية مشكوك في صحتها، بدعوى أن وزارة الخارجية ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وغيرهما لا يقدرون بالكامل التهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة.
وقد جرى تبرئة معلوف من اتصالات بالحاج، من جانب رؤسائه في البنتاغون، إذ قال أحد أصدقائه إن معلوف كان أبلغ مسئوليه عن معاملاته مع الحاج التي وصفت بأنها «علاقة حساسة» يمكن أن تفيد الأمن القومي الأميركي في المنطقة. غير أن المعلومات التي نشرت ذكرت أن معلوف تورط في خطة غريبة للتوسط في اتصالات بين مسئولين عراقيين والبنتاغون، تمر من خلال بيرل فيما وصف بأنه «عملية استخبارية غير مشروعة» خارج القنوات الرسمية لـ «سي آي إيه» ووكالة الاستخبارات العسكرية.
وقد ادعى معلوف وزميله وورمسر بأنهما وجدا دليلا بأن مجموعات إسلامية سنية وشيعية ودولا عربية (علمانية) تتعاون معا للإضرار بالولايات المتحدة على رغم خلافاتهم. وقد اطلع مسئولون في البنتاغون والـ «سي آي إيه» على معلومات فريق معلوف - وورمسر في شهر أغسطس .2002 وحضر مدير الـ سي آي إيه، جورج تينيت جانبا من تلك الاجتماعات.
اتهامات وذرائع لا تتوقف
وأكد تقرير الكونغرس عن هجمات 11 سبتمبر أنه لا وجود لأية اتصالات مزعومة بين محمد عطا من القاعدة الذي تتهمه سلطات الأمن الأميركية بقيادة خاطفي الطائرات الأميركية التي استخدمت في هجمات 11 سبتمبر، ومسئولين استخباراتيين عراقيين في براغ أو غيرها. كما أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية أكدت بدورها أن لديها أدلة تثبت أن ذلك المسئول المخابراتي العراقي الذي ذكر أنه سمير العاني كان في ذلك الوقت في مكان آخر وليس في براغ. ومع ذلك فإن المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية جيمس وولسي وهو عضو في تيار المحافظين الجدد ذهب في مهمة إلى لندن وعواصم أوروبية أخرى على نفقة البنتاغون لإيجاد رابط بين العراق والقاعدة في مسعى الى تحميل العراق مسئولية هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
وتوقف تشيني عن التطرق في خطبه وتصريحاته بشأن تبريره للحرب على العراق واحتلاله عن اتهاماته السابقة للرئيس صدام حسين بأنه لديه علاقات واتصالات مع القاعدة. فيما بدا الرئيس بوش يشير إلى أن الدعم المالي الذي كان يقدمه الرئيس العراقي الى عوائل منفذي العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال الإسرائيلي بقيمة 25 ألف دولار مبررا لغزو العراق.
وأظهرت العضوة الديمقراطية في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ باربرا بوكسر في نهاية شهر يوليو/ تموز 2003 خلال جلسة استماع تحدث فيها وولفوفيتز خريطة نشرتها الحكومة الأميركية في نهاية العام 2001 تظهر فيها 45 بلدا تعمل فيها القاعدة لم يكن العراق من بينها، ولم يرد وولفوفيتز على ذلك. وقال العضو الديمقراطي الآخر في اللجنة راسل فينغولد ان المسئولين في حكومة بوش «سوقوا لنا شيئا آخر... سوقوا لنا غزوا واحتلالا لبلد شرق أوسطي رئيسي حتى أن المعلومات الاستخبارية لم تكشف عن علاقات ثابتة مع القاعدة..» كما أن المدير السابق لقسم شئون الاستراتيجية وانتشار الأسلحة والشئون العسكرية في مكتب الاستخبارات والأبحاث بوزارة الخارجية الأميركية غريغ ثيلمان قال إن حكومة بوش «كانت تضلل الرأي العام بالادعاء بوجود علاقات وثيقة» بين العراق والقاعدة.
وعندما بدأت قوة الدفع من أجل الحرب على العراق تتنامى في مطلع العام 2002 قام وولفويتز وفيث بدمج الوحدة السرية للاستخبارات وفريق التخطيط للحرب على العراق في مكتب واحد سمي «مكتب الخطط الخاصة أو أو إس بي»، في خطوة هدفت إلى تدعيم وحدة التخطيط للحرب في قسم الشرق الأوسط وجنوب آسيا والخطط الخاصة في البنتاغون الذي يديره نائب فيث، ويليام لوتي (الذي كان عمل في هيئة موظفي تشيني عندما كان وزير للدافع في عهد بوش الأب، ونيوت غينغريش الرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي). وكان المدير الجديد لهذا المكتب أبرام ن. شولسكي، ومعه ومايكل روبين (كلاهما يهوديان) وكان روبين يعمل باحثا في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وهو المؤسسة الفكرية للوبي اليهودي - الإسرائيلي بواشنطن. وقد ضم مكتب الخطط الخاصة 18 شخصا. وكانت تسمية البنتاغون لـ«مكتب الخطط الخاصة» تهدف إلى اختبار فريد في نوعه لمجموعة من المسئولين المتطرفين في البنتاغون الذين عملوا خارج قنوات المخابرات العادية.
وفي ذلك الوقت انتقل وورمسر إلى منصب كبير مستشاري وكيل وزارة الخارجية الأميركي لشئون نزع السلاح جون بولتون الذي هو شخصيا أحد متطرفي المحافظين الجدد وكان يعمل على تدعيم استراتيجية الحرب على العراق.
وقد سيطر مكتب الخطط الخاصة برئاسة شولسكي بعد ضم وحدة الاستخبارات السرية له على الخبراء المخضرمين أو طردهم - بمن فيهم جوزيف ماكميلان، جيمس راسل، لاري هانووار وماربيث مامكديفيت، الذين على رغم سنوات خدمتهم في المنطقة إما أن يكونوا قد نقلوا إلى مناصب أخرى أو تقاعدوا. وطيلة العام الذي تلا ذلك لم يشرف لوتي وشولسكي على خطط الحرب فقط بل كانا يتصرفان بصورة هجومية لصوغ نتاج المخابرات التي يتلقاها البيت الأبيض.
إن كلا من لوتي وشولسكي ينتميان إلى تيار المحافظين الجدد على شاكلة وولفويتز وفيث، ولكن لوتي كان أكثر من ذلك. إنه يأتي إلى البنتاغون مباشرة من مكتب نائب الرئيس تشيني. وهذا أعطى لوتي الذي تقاعد أخيرا ومنح أوسمة كابتن في البحرية الأميركية، لعمله في الطيران الحربي وقيادة هجوم بالطائرات المروحية، أعطاه المزيد من النفوذ. وإلى جانب زميله العقيد ويليام برونر فقد عمل لوتي في مهمة معينة كمساعد لنيوت غينغريش في العام 1996، وهو مثل بيرل وولفويتز كان مساعدا لعميد استراتيجي الدفاع للمحافظين الجدد البرت وولستيتر الذي كان محللا ذا نفوذ في مؤسسة راند وشخصا متخصصا بالرياضيات في جامعة شيكاغو، وهو يعتبر الأب الروحي لرابطة معهد أميركان إنتربرايز الذي أطلق اسمه بعد وفاته على قاعة المؤتمرات في المعهد الواقعة في الطابق الثاني عشر لمبنى مقر المعهد بواشنطن.
وكان شولسكي على مسرح واشنطن منذ أواسط السبعينات من القرن الماضي. وعندما كان موظفا في هيئة موظفي لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي لصالح العضو الديمقراطي آنذاك عن ولاية نيويورك دانيال باتريك موينهان، بدأ يعمل مبكرا مع المحافظين الجدد مثل بيرل، الذي كان آنذاك مساعدا لعضو مجلس الشيوخ هنري جاكسون. وبعدها، وفي عهد ريغان قام بيرل بتعيين شولسكي مستشارا له في البنتاغون عن شئون نزع وضبط التسلح، إذ كان بيرل يتولى منصب مساعد وزير الدفاع لشئون الأمن الدولي.
وقد شارك شولسكي في التسعينات في تأليف كتاب عن المخابرات بعنوان «الحرب الصامتة» مع غاري شميت الذي كان عمل معه في هيئة موظفي السناتور الراحل موينهان، وظلا صديقين. وقال شميت الذي يتولى الآن منصب المدير التنفيذي لمشروع القرن الأميركي الجديد، إنه لا يستطيع قول الكثير عن خلية المخابرات السرية «لأن أحد أفضل أصدقائي يقوم بإدارتها.»
وقالت كويتكوفسكي ان لوتي وشولسكي يديران مكتب الشرق الأوسط وجنوب آسيا ومكتب الخطط الخاصة بفاعلية وحشية، ويقومان بتطهير الناس الذين يختلفون معهما، ويقومون بفرض الخط الحزبي. وأضافت «إنها منظمة كالآلة وهؤلاء الناس الذين يعملون وفق أجندة المحافظين الجدد لديهم أجندة سياسية ضيقة ومحددة تماما. ولديهم إحساس بأن لديهم مهمة.» وقالت كويتكوفسكي أن شولسكي بدا في مكتب الشرق الأوسط وجنوب آسيا في البنتاغون عملية تمشيط للمكاتب أو أخذ مكتب حيثما وجد شخصا يعمل مع فيث ولتي، قبل أن يقبض رسميا على زمام مكتب الخطط الخاصة، وقد حول لوتي وشولسكي معا المعلومات التي تم انتقاؤها من معلومات المخابرات المناهضة للعراق وغير المدعمة بأية أدلة إلى مرتكزات إقناع بشأن قضايا مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية وارتباط العراق بالقاعدة. وكان شولسكي يقوم باستمرار بتحديث هذه المعلومات معتمدا على وحدة المخابرات ويعممها على المسئولين في البنتاغون، بمن فيهم رامسفيلد وإلى نائب الرئيس تشيني.
وقالت كويتكوفسكي «طبعا لم نعتقد أنها ستذهب مباشرة إلى البيت الأبيض». وكشفت النقاب عن أن لوتي في أحد الاجتماعات التي ضغط فيها لاستكمال أحد التقارير أبلغ الموظفين قائلا «يتعين علي أن آخذ هذا إلى سكوتر (أي ليبي) في الحال.» ما يشير إلى روابط تشيني المباشرة مع المكتب من خلال لوتي، وهو ارتباط غير نظامي ولا يتفق مع الأنظمة والتقاليد المتبعة إلى حد بعيد. وترى كويتكوفسكي قيام نائب لوكيل وزارة الدفاع بالعمل بصورة مباشرة على مشروع لنائب الرئيس الأميركي، يعني بأن هذا مفتاح صغير بأنه كان هناك شبكة غير رسمية في مكتب نائب الرئيس تشيني.
وعلى رغم أن فيث ظل يصر على أن مكتب الخطط الخاصة لا يسعى إلى جمع المعلومات الاستخبارية الخاصة به، فإن كويتكوفسكي وغيرها يعارضون ذلك بحدة. فالموظفون الذين يعملون لدى لوتي وشولسكي في مكتب الشرق الأوسط وجنوب آسيا ومكتب الخطط الخاصة يخرجون بمعلومات استخبارية ذات نمط دعائي. وكمثال على ذلك أشارت إلى عمل ضابط في المخابرات الأميركية متخصص في الشئون العربية، الرائد البحري يوسف أبو العينين الذي كان مساعدا خاصا للوتي، وكانت وظيفته متابعة وسائل الإعلام الناطقة بالعربية إيجاد مقالات تتهم صدام بشان الإرهاب. وقد ترجم هذه المقالات. وفي العادة فإن مثل هذه المعلومات الاستخبارية الخام تخضع لعملية تمحيص دقيقة، ويتم تتبعها والتحقق منها ويتم فحصها من جانب رجال استخبارات مهنيين، ولكن هذا لم يكن موجودا في مكتب الخطط الخاصة. فالمعلومات التي تم إنتاجها وجدت طريقها مباشرة في خطب يلقيها بوش وتشيني ومسئولون أميركيون آخرون
العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ