قراءة الحاضر العربي تبدأ باشكالية وهي أن نقد الخطة الأميركية للاصلاح في اطار مشروع «الشرق الأوسط الكبير» لا يعني ان الوضع العربي في حال جيدة وليس بحاجة الى اصلاح. تعطف على الاشكالية الأولى واحدة ثانية وهي أن الدفاع عن المصالح العربية - الاسلامية وحق الشعوب في الاختيار والاستقلال وتقرير مصيرها لا يعني أنه محاولة للتعمية والدفاع عن سلسلة أنظمة أوصلت الوضع الى أزمة عميقة في علاقات الدول مع مجتمعاتها.
المسألة معقدة وتحتاج الى نوع من التحليل والتركيب للتمييز بين خطة يراد منها اضعاف الواقع العربي وتفكيكه لتسهيل المصالحة مع «اسرائيل» وبين واقع يضغط فعلا نحو الاصلاح والتجديد. فادراك الفارق بين مشروع مفروض من الخارج وحاجات تضغط من الداخل يسهم في وعي خطورة الموقف «المهلهل» الذي وصل اليه الوضع العربي في فترة باتت شعوبه متحيرة بين الدمار أو الاحتلال أو التبعية أو ترك الحال على حاله. أميركا في خطة الاصلاح أو في مشروعها (الشرق الأوسط الكبير) تربط بين الاصلاح والمصالحة مع «اسرائيل» وهي أحيانا وعلى خط موازٍ تفصل بين المسألتين وذلك بحسب موجة الضغط الدولية. فالربط يأتي كشرط موضوعي لنجاح الاصلاح أي أنه يبدأ برأي واشنطن من استعداد الدول العربية الى التصالح مع الكيان الصهيوني. والفصل يأتي حين تطالب الدول العربية بانهاء الصراع مع «اسرائيل» وتحقيق السلام على قاعدة القرارات الدولية... فترد واشنطن ان الاصلاح لا يتحمل التأجيل ويمكن أن يمر ويتحقق من دون حاجة للضغط على «اسرائيل» للانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة ولا يرتبط بالضرورة مع انشاء دولة للفلسطينيين.
هذا التناقض بين «الربط» و«الفصل» يشكل نقطة توتر في الداخل العربي وبين الدول العربية والولايات المتحدة. ويسهم التوتر في تعطيل مقومات الاصلاح ويمنع الشعوب العربية من التشجع عليه ما دامت «إسرائيل» ترفض القبول بما يفرضه القانون الدولي وما تمليه توازنات المصالح بين القوى المعنية مباشرة بالمشكلات المزمنة أو الطارئة في المنطقة التي أطلقت عليها أميركا «الشرق الأوسط الكبير».
الأزمة اذا ليست في الاصلاح بل في شروطه. وحل الأزمة لا يبدأ من الدول العربية فقط بل ينبع أيضا من الاشكالية «الاسرائيلية» التي تعطل التنمية العربية وتمنع الانفتاح وتزرع بذور التفرقة والكراهية بين شعوب المنطقة. فالأزمة ليست عند العرب ولا تقتصر عليهم بل هي موجودة ايضا في «اسرائيل» ومخاوفها الأمنية وقلقها من المستقبل. وهذا ما يفتح باب النقاش على «مداخل السياسة الأميركية» في المنطقة وازدواجية المعايير بين الدول العربية و«اسرائيل».
الولايات المتحدة تريد أن تكون «إسرائيل» أكثر من شريك في «الشرق الأوسط الكبير». كذلك «إسرائيل» تعتبر نفسها في موقع متميز عن مجموع الدول الممتدة من الهند إلى المغرب.
مبدأ «الشراكة» ترفضه «إسرائيل» لأنه ينطلق من قاعدة المساواة مع دول الجوار ومع مختلف الدول الأخرى. و«إسرائيل» في هذا المعنى ترفض منطق المساواة ومبدأ المشاركة على سوية واحدة مع دول المنطقة العربية - الإسلامية.
تنطلق «إسرائيل» من فكرة أساسية وهي أنها دولة محورية في مشروع «الشرق الأوسط الكبير». وأنها تتمتع بخصوصية تفوقية تجعلها على رأس الدول. فهي دولة قائدة وليست مشاركة فقط. ولهذا فهي تصر على مسألتين: الأولى إلغاء التعريف القومي لمشروع الشرق الأوسط. والثانية إلغاء الهوية الدينية لتلك الدول. والإلغاء لا يعني شطب المشاعر والعادات والتقاليد بقدر ما يعني التجاوز. والتجاوز لا يحصل إذا لم تتم إعادة بناء الشخصية الثقافية للمنطقة وفق مواصفات تربوية وتعليمية تحتاج إلى سنوات لتأسيس قواعد جديدة للتعامل مع شعوب ترى فيها تل أبيب مجرد إضافات متخلفة على سياسة اقتصادية متقدمة.
«إسرائيل» في هذا السياق تتعاطى مع «الشرق الأوسط الكبير» كسوق وهي مركزه، أو كمجال حيوي لدولة قائدة في المشروع.
مشكلة «إسرائيل» أنها تنطلق من نزعة الخوف من المحيط العربي - الإسلامي، ولذلك فهي منقسمة على هذا الموضوع بين اتجاه يريد تسوير الدولة بجدار إسمنتي يفصلها عن المنطقة ويمنع التداخل بينها وبين غيرها. واتجاه يريد فتحها على المنطقة بشروط تقويضية أي تبدأ بتفكيكها وإعادة تشكيل خريطتها.
الاتجاه الانغلاقي (الغيتو الإسرائيلي) يفضل أن تبقى «إسرائيل» مجرد قلعة محصنة في محيط من الدول المفككة والضعيفة. والاتجاه الانفتاحي يفضل خروج «إسرائيل» من عزلتها السياسية بشرط أن تكون هي «محطة المنطقة المركزية» من الهند إلى المغرب.
هواجس «إسرائيل» مخلوطة بين مخاوف الأمن والقلق من المستقبل. فالانفتاح يعني بداية تغيير في شخصيتها، ويتطلب إلغاء هويتها الخاصة (دولة لليهود) وهذا لن يحصل قبل أن تتأكد أن المنطقة (محيطها الجغرافي - التاريخي) دخلت أيضا في إطار تجاوز هويتها.
التيار الانغلاقي يتمسك بالخصوصية ويرى أنه لا فائدة من التفاهم مع دول الجوار سواء على قاعدة المشاركة أو التمايز (الدولة القائدة). فهذا التيار يرى أن الانغلاق يحمي «إسرائيل» كأقلية من غالبية عربية أو مسلمة. ويفضل تيار الانغلاق عقد تسويات منفردة مع كل طرف من دون أن يلتزم بشروط تفرض عليه التنازل عن حقوق يرى أنه أخذها بالقوة ولا يستطيع التنازل عنها من طريق التفاوض.
نظرية القلعة تبدو الأقوى في التوازنات السياسية بين الكتل الحاكمة في دولة «إسرائيل». وشارون يمثل هذا الاتجاه الغالب الذي ينطلق من هواجس أمنية ومخاوف على هوية الدولة في المستقبل. والقلعة في هذا المعنى تحتاج إلى جدار يحميها ويفصلها عن المنطقة. وهذا ما باشره شارون بتأييد من مختلف التيارات السياسية بما فيها تلك التي تدعي اليسارية والعلمانية.
فكرة الجدار ونظرية القلعة المدججة بالسلاح والمخاوف لا تستقيم مع مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي يحتاج، كما تقول نظرية السوق الأميركية ومفاهيم العولمة، إلى انفتاح وتسامح وتبادل ومراكز تجارة حرة وغيرها من سلوك سوي في الحياة واحترام الآخر ومحاولة الاقتراب منه والتقرب إلى مشاعره وعاداته.
لذلك، وبناء على أكثر من تحليل، يمكن التوقع منذ الآن أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» مجرد مجموعة أفكار مجمعة من هنا وهناك أطلقت في سياق سياسي من دون وعي بتعقيدات المنطقة وظروفها وتفاوت نموها واختلاف أنماطها على رغم توحدها في عناوين مشتركة مثل عرب، أو إسلام، أو حضارات قديمة.
فالمشروع فكرة وليس خطة. لأن الخطة تحتاج أولا إلى سلسلة معايير دقيقة، وتحتاج ثانيا إلى حد أدنى من الانسجام، وتحتاج ثالثا إلى وعي تاريخي وقدرات وإمكانات وإرادات وهذا غير متوافر على مستوى جامعة الدول العربية فكيف يمكن تأمين نجاحه على مستوى مشروع «منفلش» جغرافيا وأوسع بكثير من حدود دول الجامعة العربية.
إلى عجز الدول العربية وضعف الفكرة وصعوبة تحولها إلى مشروع - خطة، هناك المشكلة الإسرائيلية وهي مشكلة مركبة فهي من جهة لا تنسجم مع الدول المحيطة بها وهي من جهة أخرى غير منسجمة مع نفسها. فـ «إسرائيل» أيضا ومن منطلقات مغايرة للدول العربية تتخوف من كل مشروع وحدوي أو انفتاحي لأنها ستكون دولة صغيرة بين دول عريقة في ثباتها التاريخي وامتدادها الجغرافي.
لهذا يمكن القول إن المشروع ليس جديا وسيسقط لوحده حتى لو لم يلقَ المقاومة والرفض من دول المنطقة وشعوبها. فالمشروع يفتقد إلى مقومات كثيرة وعناصر غائبة عن مكوناته الأمر الذي يشير إلى سذاجة الطرف الذي طرحه وتبناه. فالنجاح يحتاج إلى عناصر تكفل له ديمومته وهذا غير موجود في مسودة المشروع الذي سيناقش في سي ايلاند.
والسؤال: لماذا طرحت الولايات المتحدة مسودة مشروع لا يملك مقومات النجاح، وترفضه ضمنا دولة منغلقة تدعى «إسرائيل»؟
الجواب يميل إلى ربط المسألة بوضع الرئيس جورج بوش الداخلي وارتفاع موجة النقد لسياسته الأمنية وسلوكه الخارجي. فالرئيس بوش طرح المشروع ليقول للناخب الأميركي إن السياسة الأميركية لا تعتمد القوة (الطائرة والمدفع) لتحقيق أغراضها، وإنما هي صاحبة مبادئ تريد نشرها وتعميمها على العالم. وبعدها يكون الطوفان.
المقال نص كلمة القيت في 29 مارس/ آذار الماضي في مجلس الشيخ عبدالأمير الجمري عن «الحاضر العربي بين الإصلاح الأميركي والمصالحة مع العدو الإسرائيلي»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 574 - الخميس 01 أبريل 2004م الموافق 10 صفر 1425هـ