اعتمد الفكر السياسي العربي على الرابطة القومية والانتماء الديني أساسا لتقوم عليها غالبية الدول العربية، وإذا تتبعنا جذور الرابطة القومية سنجد لها امتداداتها القبلية والعشائرية، التي تحيل الدولة إلى ملكية خاصة لقومية واحدة أو عشيرة واحدة وفي بعض البلدان لعائلة واحدة، ومن جهة أخرى، فإن الانتماء الديني يأخذ جذوره من الانتماءات المذهبية والطائفية، فيتم بها احتكار الدولة لأتباع ديانة أو مذهب معين، لنقف على نماذج متنوعة ومتعددة لدول الأقليات أو دول الأكثريات، أما دولة المواطنة دولة الكل وليس الجزء فلا وجود لها، وهذا جلي في ديباجة دساتير الدول العربية، التي تنص على تعريف هوية الدولة على أنها دولة عربية أي مخصصة لقومية واحدة هي القومية العربية، وأنها دولة إسلامية وهي بذلك تكون دولة المسلمين وحدهم، ومع أن الدساتير على عيوبها لا قيمة واقعية لها، إذ نادرا ما يتم العمل بها، وكثيرا ما يتم خرقها من قبل واضعيها، فإنها تعطي مشروعية مزيفة لهذا الشكل المتخلف من أشكال الدول التي ثبت أن هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم تكن مناسبة لبناء الدولة الحديثة في المرحلة السابقة، بقدر ما هي غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات المرحلة الجديدة التي تشهد تبدلات في المفاهيم وتعطيها مضامين جديدة تساعد النماذج الأخرى من الدول الأكثر تقدما على التأقلم مع المناخات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة التي أخذت تسود العالم، حتى تكون قادرة ليس على مواجهة التحديات بل السيطرة عليها والاستفادة منها في تحقيق مصالحها الوطنية بدفع قوى التطور نحو مزيد من الإنتاجية المادية والمعنوية الرفيعة.
إن الانتماء العرقي والديني ليس هو النموذج الأفضل لبناء الدول، لأنه لا توجد أمة نقية الدماء ولا يوجد مجتمع من ديانة واحدة، بفعل حركات الهجرة الطوعية والإجبارية للبشر التي تغير باستمرار خرائط ديموغرافيات الكرة الأرضية.
كانت أعداد المهاجرين حول العالم 190 مليونا للعام 2005، وفقا لإحصاءات المنظمة العالمية للهجرة، والصورة الدينامكية العالمية متغيرة باستمرار، أما بالنسبة للبلدان العربية فإنه بنتيجة عملية انتقال السكان في الحقبة الإسلامية بموجات هجرة كبيرة أدت إلى تغيير التركيبة العرقية والدينية للسكان لتفقد المجتمعات المحلية هويتها الأحادية، وتتحول إلى مجتمعات متنوعة الأديان والأعراق، فصار العنصر العربي أكثرية وتحول السكان الأصليون إلى إثنية، وفق هذه المعطيات تشكلت اللوحة الديمغرافية في المجتمعات العربية الراهنة، حيث التنوع العرقي والديني والثقافي.
ومع انتشار الفكر القومي في العصر الحديث وتنامي حركة الشعوب من أجل الحرية وحق تقرير المصير، فإن حركة القومية العربية واجهت المسألة القومية، ولسوء الحظ فإن التيار الغالب الذي حمل الفكر القومي العربي قد تأثر بالإيديولوجية الألمانية القائمة على التعصب العرقي والتي تدعو إلى بناء الدولة على أسس رابطة الدم، وحين استلم هؤلاء السلطة أخذوا بمبادئ النظرية العرقية كعقيدة رسمية لدولهم وطريقة لمعالجة هذه المسألة، لتصبغ مجتمعاتها بالصبغة العروبية - الإسلامية وترفض كليا وجود قوميات أخرى في دولها وتهمش الأديان الأخرى لصالح الدين الرسمي، ولم تتوقف هذه السياسة على حدود الإقصاء والتهميش، بل تطورت إلى إيديولوجيات شوفينية تحاول صهر الإثنيات الأخرى في البوتقة العربية، وحين رفضت هذه الإثنيات تطبيق سياسة التعريب عليها، لجأت النخب العربية الحاكمة إلى ممارسة سياسة الاضطهاد القومي في إجراءات تمييزية في بعض الدول وأساليب العنف في دول أخرى، مما أدى إلى ظهور مسألة الإثنيات والأقليات في هذه البلدان لتفجر حروبا أهلية وصراعات دامية، تكلف الدولة خسائر بشرية ومادية باهظة وتنشط عوامل تعطيل مشاريع التنمية فيها وتهدد السلم الأهلي، وتقود إلى مآسٍ إنسانية وكوارث، حيث جرائم الإبادة الجماعية والتصفية على الهوية العرقية والدينية.
وهذا يدل على أن نموذج الدولة العرقية لا يناسب تكوين مجتمعات المنطقة القائمة على التنوع، وقد بات مطلوبا من النخب الحاكمة والسياسية والفكرية البحث عن وسائل لعصرنة الدولة وتحديثها وإعادة النظر في أسس بنائها وصولا إلى وضع تعريف جديد لها يراعي مسألة التنوع القومي والديني لسكانها، من خلال الأخذ بتجارب ناجحة لبناء الدول على أسس جديدة يمكن الاستفادة منها في عصرنة الدول العربية دون المساس بسلامتها ووحدة أراضيها، إذ كثيرا ما تتذرع الحكومات القائمة بالحرص على سلامة الدولة لتتهرب من استحقاقات التغيير لتحافظ على الشكل القديم للدولة القومية.
هناك تجارب ناجحة وراقية، تستند على نظريات أخرى غير النظرية العرقية في وضع أسس الدولة، كنظرية المصالح الاقتصادية والإرادة المشتركة، التي تقدم مفاهيم جديدة عن الأمة والشعب والدولة، إذ تكون رابطة الانتماء إلى الأرض هي الرابطة المشتركة بين جميع سكانها بغض النظر عن أعراقهم وأديانهم، إنها رابطة المواطنة التي يضمنها دستور حر وديمقراطي يحدد حقوق وواجبات المواطن دون تمييز ليحقق العدل والمساواة ما يضمن لكل المكونات الاجتماعية في الدولة أن تعبر عن هويتها القومية والدينية بحرية تامة، ليتحقق ذاك الانسجام الخلاق بين موزاييك مجتمع متعدد الأعراق والأديان، ويصبح التنوع عامل قوة واستقرار وتطور للمجتمع والدولة، فالتجربة السويسرية حققت نجاحا مذهلا في التعايش بين الأعراق ما سمح لها أن تكون في مصاف الدول المزدهرة حضاريا لتؤكد أن التنوع ثراء وغنى وليس نقمة، وفي الولايات المتحدة الأميركية نجد النموذج الأرقى لدولة المواطنة لأنها بموجب الدستور قامت على أساس الانتماء إلى أرض الولايات المتحدة الأميركية وليس على أساس الانتماء إلى عرق محدد أو ديانة معينة، وهذا ما ساعد على التفاعل بين سكان الولايات المتحدة التي تضم مجتمعا هو الأكثر تنوعا إثنيا ودينيا في العالم ومع ذلك فإن هذه الدولة تحافظ على وحدتها وتماسكها وليس هذا فحسب بل أصبحت أعظم قوة عالمية، ومرد ذلك أنها إلى جانب الثقافة الإنجليزية السائدة سمحت بازدهار الثقافات الفرعية والمحلية لشعبها المتعدد الأعراق، فإلى جانب العنصر الأوروبي والسكان الأصليين توجد العناصر الإفريقية والآسيوية والاقيانوسية. هؤلاء المهاجرون الذين يفدون إلى الولايات المتحدة يحافظون على روابط قوية مع أوطانهم الأصلية، عن طريق السفر، والبريد الإلكتروني، والهواتف الخلوية، والفضائيات ولكن ليس هناك ما يخيف أميركا من هذه الناحية فقد آمن مواطنوها الأوروبيون المهاجرون الأوائل كما المهاجرون الجدد بهذا التنوع ولا تنظر الإدارة الأميركية إلى هذا التنوع كمصدر خطر للصراعات العرقية بل وجدت فيه أسلوبا ثريا للتفاعل بين الشعوب وتمازج الحضارات، فإذا بالنموذج الأميركي شكل مذهل وفريد من بين أشكال الدول الحديثة، إذ نجح الآباء المؤسسون في خلق مجتمع متجانس فقد تضمنت الكلمات الأولى من الدستور الأميركي عبارة، نحن شعب الولايات المتحدة، ليعطي فضاء رحبا لمعنى الشعب متجاوزا المفهوم القومي أو العرقي لمصطلح الأمة أو الشعب إلى مفهوم المواطنة فكل من يسكن أرض الولايات المتحدة هو من شعب أميركا مهما كان انتماؤه العرقي أو الديني، فالجميع جماعة أهلية منضوية تحت التنظيم الواحد والمصالح المشتركة التي يجد كل أميركي أنه جزء منها كون هذا التنظيم الاجتماعي - السياسي الراقي يوفر حقوقا متساوية للجميع.
فما الذي يمنع الحكومات العربية من الاستفادة منها لتعيد صياغة دساتيرها حتى تؤسس دولة الجماعة الأهلية والمواطنة، وليست دولة العرق أو المذهب، حيث لم يعد مقبولا إقامة دين أو قومية للدولة، بل يجب التركيز على منح الحريات العامة للإثنيات مع الحرية الدينية، ففي ذلك يكون الاتجاه نحو المسار الصحيح للدخول إلى العصر الجديد، هذا هو التحدي الحضاري الذي يواجه الحكومات العربية إن كانت قادرة على وضع مبادئ جديدة تضمن حقوق الإثنيات العرقية وتحافظ على الحريات الدينية للأقليات حتى تفسح المجال أمام هذا التنوع الثري ليعطي ثماره، بخلق مجتمع تعددي لا تكون فيه هذه التعددية مجرد أمر نتحمله ونتعايش معه فحسب، بل تصبح هي ذاتها مصدر قوة المجتمع نفسه. ولكي تتحقق هذه الخطوة، يجب تغيير الأفكار المسبقة التي تصور الأقلية العرقية أو الدينية خطرا على أمن دولة الأكثرية، من الضروري التخلص من هذه القناعات القديمة وإيجاد ثقافة عصرية تسمح لأبناء المجتمع الواحد بالتعرف على بعضهم بعضا حتى يعبّر فيها كل مكون اجتماعي عن شخصيته ويعرض مساهمته ورغبته بالمشاركة في تأسيس دولة المواطنة كإطار جامع لمصالح كافة الشعب.
إن فكرة القومية ليست مقدسا ثابتا لا تقبل المساس بها. وإذا كانت بعض النخب العربية تعتقد أن إيديولوجيتها القومية هي الحقيقة المطلقة فهي مخطئة، فالفكر متحرك وليس ساكنا، متبدل وليس جامدا، والنظريات العلمية قابلة للتعديل كلما اكتشفت حقائق جديدة حول ظاهرة اجتماعية أو طبيعية، والمجتمع البشري حقل حيوي ومثير لدراسة ديناميكية التاريخ فالشعوب تتطور وكذلك معتقداتها لذلك لابد من التخلي عن التعصب القومي والديني حتى تستطيع الأغلبية فهم الأقلية على أساس أنها جزء أصيل من مكونات المجتمع وليس شيئا طارئا يجب تصفيته، لقد بات على منظري الفكر القومي إعادة التفكير في مجموعة مفاهيمهم الشمولية حول الحياة والعالم ضمن سياق الواقع الديمغرافي والديني المتعدد والمتنوع في مجتمعاتهم حتى تعرف كيف تستطيع من هذه الكثرة أن تصيغ دولة واحدة.
إن التنوع سمة من سمات الدول العربية وفي العصر الجديد حيث تنتشر قيم الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان بات من الضروري إلقاء نظرة أكثر عقلانية على الأعراق والأديان والثقافات والفنون الموجودة في هذه البلدان، حيث لم تعد سياسة الإنكار والتجاهل مجدية لأن مثل هذه المواقف لا تحل المشكلة بل تزيد من تفاقمها، وترفع كلفة معالجتها وخاصة أن المحاولات السابقة في حل هذه القضايا بوسائل العنف قد باءت بالفشل وعادت بسوء العاقبة على رؤوس أصحابها، ففي وسط مثل هذا التنوع الهائل ليس هناك من حلول غير الاعتراف بالأمر الواقع، وذلك بإعلان المساواة بين سكان الدولة وضمان الحريات العامة والدينية، وهذا يعني تغيير الدستور وإعادة صياغة تعريف للدولة، فهل النخب الحاكمة مستعدة لمثل هذه الخطوة، أم أنها مصرة في المحافظة على الشكل القديم للدولة القومية - الدينية التي تضمن لها استمرار سلطتها والحفاظ على مصالحها تحت شعار الوصاية على القومية وعلى المذهب؟
* كاتب سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2750 - الأربعاء 17 مارس 2010م الموافق 01 ربيع الثاني 1431هـ