تخطيء بعض الجهات في إيران عندما تعتبر أن المسلمين الشيعة مجرد تجمعات وجيوب صغيرة تابعة لها، ويخطيء العرب أيضا عندما يأخذون هذا الوهم على أنه حقيقة ومسلّمة، ويبنون عليه سياساتهم المحلية والإقليمية.
تاريخيا... لم تكن إيران شيعية حتى قبل خمسة قرون، ومن مفارقات التاريخ التي يجهلها الكثيرون ممن يكتبون عن إيران والعرب هذه الأيام، أن تحوّل إيران باتجاه تبني المذهب الشيعي، إنما تمّ على يد فقهاء وعلماء عرب أقحاح، من الحلّة وجبل عامل والبحرين القديمة. فإيران بهذه الصفة حديثة عهدٍ بالتشيّع، الذي انكمش في بقاعٍ جغرافية محدودة، بعد أن قامت له دولٌ وممالكُ من المغرب وشمال أفريقيا، إلى مصر والشام والجزيرة واليمن والهند. ولعل أشهر هذه الدول الإدريسية والفاطمية والبويهية والحمدانية... وكلها دولٌ ذات آثار وأمجاد.
هذه بعض حقائق التاريخ المجرّدة، وعليه فإن تصوّر أن التشيع بدأ بالعهد الصفوي خطأٌ مضللٌ وجهلٌ كبير. وهو خطأٌ لا يقل عن خطأ بعض الإيرانيين، نوابا أو مسئولين سابقين أو حاليين، حين ينصبون أنفسهم ناطقين باسم شعوبٍ أخرى لم تخوّلهم للحديث باسمها أصلا، ولا تتفق معهم بشأن أوهام التبعية جملة وتفصيلا.
من حقائق التاريخ أيضا، أن الأديان أو المذاهب أو الدعوات الفكرية والحركات الإنسانية والنضالية، عادة ما تكون عابرة للحدود واللغات والقوميات، وبالتالي فمن الخطأ محاولة مصادرتها وتحجيمها تحت عباءة واحدة، أو ادعاء تمثيلها حصريا، فتلك ضد منطق وتطور التاريخ.
الشيعة اليوم، ويؤسفني الحديث بهذه التقاسيم المصطنعة بين المسلمين، فنحن أمةٌ واحدةٌ وكفى... هم أبناء أوطانهم وأرضهم حيث يعيشون. مواطنون أصلاء لا دخلاء، حتى لو عُوملوا في أوطانهم بدون إنصافٍ وعدلٍ ومساواة، وهم ليسوا بحاجةٍ لإثبات الولاء بشكل يومي، لأن المواطنة كالنسب، الأصل فيها هو البراءة، وليس التطويق والمحاصرة بالتهم وخلق الأجواء التحريضية وفتح باب المزايدات للمنتفعين وحَمَلَة ألوية العنصرية والتمييز.
قبل يومين، نقلت وكالات الأنباء الأجنبية أن عدد المشاركين في إحياء ذكرى الأربعين في كربلاء بلغ ملايين، وبعض المتحمسين قفز بالرقم إلى 14 مليونا، وبغضّ النظر عن الرقم الصحيح، هل سأل أحدٌ منكم نفسه: لماذا هذا الحشد المهول؟
من المؤكد أن أحدا لم يذهب إلى كربلاء لاستعراض قوته العضلية أو العددية، أو لإخافة إخوانه من بقية المذاهب والأعراق. هناك يقينا جانب الإيمان والعبادة، وهناك جانب التعويض عن الحرمان والكبت السياسي السابق ومنع الحرية الدينية لسنوات وسنوات... ولكن هناك أيضا جانب التعبير عن الهوية، التي تعرّضت، مثلا في العراق، لمحاولات التهميش والإقصاء وعدم الاعتراف بالوجود، ومعاملتهم في بلدانهم كأقليات أو «جيوب» أو جاليات، ولم تتغيّر المعادلة حتى بعد الاحتلال البريطاني والعهد الملكي والجمهوري... من القوميين إلى البعثيين.
إنهم مواطنون في هذه الدولة أو تلك، عليهم واجباتٌ تجاه أوطانهم يبذلونها عن التزامٍ وإيمانٍ وطيب خاطر، ولهم حقوق مواطنة يطالبون بها كسواهم من الحالمين بدولة المؤسسات وتكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون. لا يقبلون أن يكونوا مطية لأحد، ولا يقبلون لبلدهم أن يكون تابعا لأحد، أو يتحدّث باسمهم أحد. أجدادهم شاركوا غيرهم في صفوف الحركة الوطنية ، وآباؤهم صوّتوا للاستقلال دون منّة، وكانوا الأسخى بما قدّموه قربانا لبلادهم وللإصلاح
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2357 - الثلثاء 17 فبراير 2009م الموافق 21 صفر 1430هـ