شكل النصف الثاني من القرن السادس عشر بداية ظهور متحولات في بنية النخبة الأوروبية مستفيدة من تلك الانشقاقات التي أصابت الكنيسة وأضعفت نسبيا هيبة الاكليروس. وخلال تلك العقود الخمسة ستترافق الحروب الدينية (الأهلية) مع ولادة كبار العلماء والأدمغة. ففي مدينة بيزا الإيطالية سيولد غاليله غاليلو في العام 1564، وفي بريطانيا فرنسيس بيكون في العام 1561، وتوماس هوبس في العام 1588، وفي مقاطعة تورين (فرنسا) سيولد رينيه ديكارت في العام 1591.
هذا النمو الطبيعي للنخبة الأوروبية جاء استجابة متواضعة للتحولات التي شهدتها القارة منذ الانتصار على وباء الطاعون في القرن الرابع عشر والبدء في عبور البحار وترسيم طريق جديد للهند واكتشاف أميركا في نهاية القرن الخامس عشر وصولا إلى انقسام الكنيسة في مطلع القرن السادس عشر. وجاءت نهاية القرن السادس عشر لتكثف مجموع روافد المعرفة (اكتشافات واختراعات وكتابات) في إطار نهضوي مشترك. فالخريطة الجغرافية ساهمت في تعديل الخريطة العمرانية - الاجتماعية. وتطوير الآلة ساعد على تحسين وتيرة الاكتشافات البحرية. والاكتشافات شجعت العلماء على الاختراع لتحسين أداء السفينة في عملية البحث عن المجهول.
بسبب الانسجام بين القطاعات المعرفية بدأت آفاق الخريطة الذهنية للعلماء تتغير لتلبية حاجات السوق وتغطية متطلبات التطور الذي أخذ يعصف بالتوازنات التقليدية في القارة. فالمعرفة لم تعد لذة شخصية أو محاولة إشباع ذاتية وإنما تحولت إلى حاجة إنسانية تلبي وظائف حسية مباشرة. والتجديد الذي طرأ على العلوم الفلكية ونظريات الرياضيات لم يحصل للترف الفكري ولترضية الطموحات الذاتية وإنما بدافع الحاجة وتلبية لمتطلبات التجارة (البحر - السفينة). والتطور الذي حصل في علوم الفيزياء واكتشاف قوانين سقوط الأجسام والجاذبية والميكانيكا واختراع الآلات جاء في سياق تحولات شاملة أخذت تهيكل توازنات القارة ما أدى لاحقا إلى تأثر الفلاسفة بالعلوم والتقاط معنى تطور الآلة وأبعادها المستقبلية. فالميكانيك ساهم نظريا في توليد اجتهادات فلسفية تقول بالتطور العقلاني وتؤكد وجود آليات تحرك قوانين الطبيعة.
حين اخترعت آلة المقراب (التي سمحت بالتثبيت التجريبي) في العام 1596 كان ديكارت في الخامسة من عمره بينما استخدمها الشاب غاليلو في بحوثه في العام 1609 لكشف حركة الأجرام (دوران الأرض) ومركزية الشمس. فالآلة ساعدت على تحديث النظرية، والنظرية أطلقت موجة من التقدم المعرفي ما أثار مخاوف الكنيسة ودفعها إلى جلب غاليلو إلى المحكمة والتحقيق معه بشأن ما توصل إليه من آراء في كتاب له صدر في العام 1632.
محاكمة غاليلو بشأن دوران الأرض (الشمس مركز الكون) سيسجل وقائعها التاريخ في العام 1633 لأن الفيلسوف (الفيزيائي) سيتراجع عن نظريته خوفا وليطلق سراحه ويموت وحيدا في العام 1642 بينما فكرته ستبقى تستمر في الدوران حتى اللحظة.
وقائع المحاكمة أكدت أن الكنيسة كانت لاتزال تتمتع بذاك النفوذ على العامة في إيطاليا حتى العام 1633 ما يفسر تعطل إمكانات تطور الفلسفة وتجدد انطلاقها من الشمال الإيطالي (توسكانا). وتعذر حصول الفلاسفة على ضمانات وحمايات من تدخل الاكليروس أعطى فرصة لنمو الفلسفة الأوروبية خارج الإطار الكنسي وانبعاثها من أمكنة مختلفة وبعيدة عن الفاتيكان فانتقلت الشرارة الأولى إلى بريطانيا ومنها إلى فرنسا وثم ألمانيا.
الفيلسوف السياسي بيكون توفي في العام 1626 لم يشهد وقائع محاكمة غاليلو ولكنه تابع وقائع السنوات الأولى من الحرب النمسوية - الألمانية التي اندلعت في العام 1618 واستمرت لمدة 30 عاما. بيكون سيشهد بداية الحرب وهوبس سيتابعها لتنتهي باتفاق سلمي في العام 1648 وهو اتفاق ساهم في استقرار القارة وظهور عصر “الدولة المركزية” المحكومة بإرادة الفرد المطلق.
والد بيكون (السير نيكولاس) كان خادم الدولة ما أعطى فرصة لابنه لاحقا بالصعود في قنواتها والاستفادة منها مستخدما علاقاته لتحسين مواقعه وحماية سمعته من تهمة الرشوة. وأهمية بيكون ليست في الفلسفة التي قدمها وإنما في تلك الإشارات التأسيسية ودورها في تكوين إطارات عامة للعلوم السياسية. وبيكون الذي صنف العلوم إلى ثلاثة حقول (الذاكرة وموضوعها التاريخ، المخيلة وموضوعها الشعر، العقل وموضوعه الفلسفة) طالب بنقد العقل وتجديده باتجاه العلم. فالعقل برأيه أداة تجريد وتصنيف ومساواة ومماثلة بينما العلم يتقدم في اكتشافاته واختراعاته وحقوله المعرفية والتجريبية.
نقد بيكون للعقل بناء على منهج استقرائي أدى إلى تحطيم العقل وتوزيعه إلى ثلاثة أنواع من الأنشطة الوهمية (أوهام القبيلة، أوهام الكهف، وأوهام السوق) وساعد على تحرير النظريات العقلية من القيود الكلاسيكية والمقدسات الدينية وأعطاه وظيفة جديدة: العلوم.
إعادة تشكيل دور “العقل” وتحديد وظائفه المعاصرة سيطلق موجة من التقدم في مختلف فروع المعارف العلمية والتجريبية والوضعية والبرهانية، وهي في النهاية ستتألف في ضوء سجالاتها مجموعة منظومات فلسفية ستتأثر كثيرا بالمحيط السياسي والفضاءات الاقتصادية والاكتشافات والاختراعات وتطور الميكانيك.
هوبس (الاستبداد) وديكارت (العقل)
القرن السابع عشر الذي بدأ في ضوء إيقاعات الحروب الدينية وتداعياتها ومحاكم التفتيش ومعاقبة غاليلو لمخالفته التعاليم الكلاسيكية سينتهي في سياقات مضادة تبدأ بتراجع موجة الحروب الدينية وانكسار نسبي لوظيفة الكنيسة وتحطيم معقول لهيبة الاكليروس مقابل نمو قوة الدولة المركزية. فالدولة في مهماتها المضافة ستكون في القرون المقبلة مدار التجاذب والتفاوض والتناحر والتنافس... فهي كنيسة أوروبا الجديدة.
هوبس سيكون فيلسوف “الوحش” الصاعد وصاحب نظرية القوى الكلية في صلاحيات الدولة وإدارتها للحكم المطلق. فهذا الفيلسوف ليس مثاليا في تفكيره لأنه اكتشف باكرا صعود القوة البديلة (الدولة التنين) ودورها التاريخي في إعادة تصنيع المجتمع وتكسير أدوات السلطة السابقة.
عاش هوبس 91 سنة بكامل وعيه الذهني وعاصر الكثير من التحولات في أوروبا فهو زار فرنسا في العام 1634 ودخل في سجال فلسفي مع ديكارت ما اضطر الأخير إلى الرد عليه، وزار إيطاليا في 1636 والتقى غاليلو، وعايش اندلاع الحرب الأهلية في بريطانيا في العام 1642 التي أعقبت الثورة الجمهورية التي قادها اوليفر كرومويل، وأيضا شهد توقيع السلام بين النمسا وبروسيا ونهاية حرب 30 عاما وبدء الاستقرار النسبي في أوروبا في العام 1648 لمصلحة صعود “الحكم المطلق”.
كل هذه العينات التاريخية أسست قواعد منهجية في تفكير هوبس ووضعته في موقع الخائف من صعود التنين (Leviathan) كما جرى وصفه في سفر أيوب. فالدولة التي تحفظ عليها هوبس قصد بها الحكم المطلق الناجم عن ردة الفعل على الفوضى المطلقة. فالفوضى التي تتجاوز القانون وتحتقر الصلاحيات وتمارس سياسة تسلط الفرد على الجماعة تعطي شرعية للحكم المطلق باسم الدستور.
الكتاب (التنين) صدر في العام 1651 وهو جاء ردة فعل على “الفوضى الجمهورية” التي افتعلتها ثورة كرومويل ما دفع هوبس إلى محاكاة الحكم المطلق الذي يمنع الأفراد من التخاصم والتنابذ ويضع السلطة العامة في قبضة حكومة ملكية دستورية لا بإشراف “ديمقراطية أرستقراطية” ترفض الطاعة ولا تحترم القوانين.
دعوة هوبس إلى الاستبداد لم تلق التجاوب لأنها أولا ليست حقيقية، ولأن أوروبا ثانيا بدأت تتطور سياسيا نحو ما أسماه لاحقا جان جاك روسو بـ “العقد الاجتماعي” مستفيدة اقتصاديا من حركة الإنتاج التي ولدتها الاكتشافات والاختراعات مترافقة مع نمو منهج الشك الديكارتي العقلاني.
ولد ديكارت في العام 1591 بعد هوبس بثلاث سنوات وتوفي قبله بنحو 30 سنة. فالفيلسوف الفرنسي الذي يصنف بأنه مؤسس الفلسفة الحديثة عاش 59 سنة ولكنها كانت كافية لإعادة إنتاج قواعد الشك في إطار رؤية معاصرة تتناسب مع تلك المتغيرات التي شاهدت النخبة الأوروبية ملامحها الفكرية والثقافية والدينية والعلمية. فالمثقف الأوروبي بدأ يستكشف معالم إيجابية في التقدم ما أعطته الاختراعات حماية علمية لقراءاته واستنتاجاته.
اكتشاف النخبة تلك الوظائف المعاصرة للاختراعات ودور الآلة وقوانين الفيزياء في تحديث الحياة العامة أعطى بدوره قوة دفع جديدة وساعد المثقف الأوروبي على تطوير مقولاته وشجعه على اختراق الممنوعات والمقدسات. وديكارت جاء في سياق تطور طبيعي للمعرفة حين كان العلم الحديث يعاد تشكيله من خلال المنهج التجريبي والاستدلال الرياضي - الفيزيائي للتعرف على الظواهر الطبيعية ومحاولة تفسيرها بعيدا عن منطق أرسطو أو عن التفسير الديني للتاريخ.
عاصر ديكارت محاكمة غاليلو واطلع على اعترافاته ما دفعه إلى تأخير الكثير من أطروحاته أو إهمالها أو الاشتغال على غيرها من حقول حتى لا يستنفر العامة ويستفز الكهنوت (الاكليروس) لذلك لجأ إلى منطق الشك بقصد اكتشاف اليقين (الحقيقة). وأهمية ديكارت تكمن في هذا النهج التصالحي الذي أعطاه فرصة للجمع بين الهندسة والرياضيات في إطار البحث عن منهج جديد يسعف على التفكير ويتجاوز تلك الكلاسيكيات الأرسطوية المتوافق عليها منذ قرون. والبحث عن بدائل أوصل ديكارت إلى كتابة “مقال في المنهج” وصولا إلى “مبادئ الفلسفة” وانتهاء بمقولة “أنا أفكر إذن أنا موجود”.
على وقع “أنا أفكر” أنهى ديكارت وضع مقدمات الفلسفة المعاصرة ولكنه لم ينجح في التوصل إلى صوغ نهاياتها. فالنخبة الأوروبية التي تأسست على قواعد جديدة في التفكير ستبدأ من هذه المقدمات الأولية (التمهيدية) لإعادة هيكلة رؤى تتناسب مع تحولات متسارعة أخذت تشهدها القارة. فأوروبا منذ القرن الخامس عشر لم تتوقف عن التطور والاكتشافات والاختراعات. وكان كل تقدم في العلم أو اكتشاف أو اختراع آلة يترك تأثيره آليا على فكر النخبة وينتج مقولة تتجانس مع ما توصلت إليه الآلة والعلوم من وظائف جديدة تطرح على الإنسان تحديات وقراءات واستنتاجات مغايرة للمألوف والمتوارث.
ديكارت مثلا تأثر بإعلان العالم ويليام هارفي اكتشافه للدورة الدموية في العام 1628 فقام بالبناء على ذاك الاكتشاف الطبي سلسلة تفسيرات تحاول الربط بين العلم والفلسفة والعقل. وهذا ما فعله هوبس من جانبه كذلك سيفعله الكثير من الفلاسفة لاحقا في اعتبار أن وظائف العقل أخذت تتخطى حقبة التأمل إلى طور تجريبي أرقى يحاكي العلوم والآلة. وبما أن العلم في حال تطور دائم يصبح العقل مجرد شاهد تجريبي يفكر ويقرأ ويفسر أسباب ذلك التقدم. فالعقلانية التنويرية منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر ستنجح في اختراق الحاجز التأملي للعقل وإقحامه في حقول المعرفة التجريبية وما تنتجه من اختراعات (آلات) تلبي حاجات السوق وطموح الإنسان.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2744 - الخميس 11 مارس 2010م الموافق 25 ربيع الاول 1431هـ