نتحدثُ عن الغيابِ كأنْ لاَ أحدَ هنا. نتحدثُ عنه باعتبارهِ انفصالا ماديا عن أرواحِنا ربما، وإلا ما الذي يجعلُ تلك الحاسةَ حاضرة بهذه الشراسةِ المُحْرجةِ أخلاقيا؟
الذين نحبُهم يرفضون دائما أن يكونوا وراءَ ذاكرتنا. إنهم ذاكرتُنا التي كثيرا ما تصاب بالعَطَبِ، ونتأكدُ من عافيتِها حين يكونُ الذين نحبُهم أمامَنا كأنهم – بل هم كذلك – يسهرون على درسِهِم اليوميِّ. ليس لنا فحسب؛ بل للحياة نفسِها، وخاصة حين يكونُ الأحبةُ من الطِراز الذي يأتي إلى الحياةِ بعفويةٍ بالغةٍ، ويعيشُها بعفويةٍ، وحين يدخلُ في وَرطته الجميلةِ (الشعر) يذهبُ إليها بعفويةٍ بالغةٍ أيضا.
لم يكنِ الشاعر عبدالله حمَّاد، شاعرَ مقهى أو منبرٍ أو شاعرَ غنائم يتمُ اقتناصُها هنا وهناك. كان شاعرا يبحث عن غنائمِ الروحِ وغنائمِ القيمةِ المضافةِ إلى الإنسانِ. الإنسانِ الذي جاء إلى هذا العالم كي يمنحَه معنى بحسب تعبير «نيتشه».
لم يكن شاعرَ مساحاتٍ مؤجَّرةٍ كما تُؤجَّرُ مصاطبُ في الأسواقِ الشعبيةِ؛ إذ الذاكرةُ الجمعيةُ الاستهلاكيةُ تذهبُ وفْقَ ذلك المفهومِ إلى إهدار القيمة. كان شاعرا من طِرازٍ فريدٍ ومُربكٍ ومُحْرجٍ وجارحٍ وصاعقٍ وراعدٍ وبارقٍ، وفي النهاية، كان بسيطا كالماء، مفعما بالأُنس، كحِدَاءِ بدويٍّ في وحشةِ مدى، وشحِّ كلأٍ، وتناسلِ سرابٍ.
كان مفعما بحريَّةٍ استثنائيةٍ أيضا، لا عَبْرَ غنيمةِ الدواوينِ، لأنه كان يعي مقولةَ العربِ قديما: «ما كُتِبَ قَرَّ وما حُفظَ فَرَّ». كان يُقِرُّ برفضه واختلافه، ولكن بأخلاقيةٍ عاليةٍ، وسموٍ ملْفتٍ، وحين ينتهي من كلِّ ذلك، يتفقَّدُ نصَّهُ المؤجَّلَ، إما لفِرْطِ مرضٍ أرادهُ أن يكونَ سرا مغلقا على الأصدقاء كي لا يوسِّعَ رقعةَ وحشتِهم وعنائِهم فارتأى أن يصادرَ حِصَّتَهم من تلك الوحشةِ والعناءِ بنُبْلٍ بالغٍ. يضعُنا أمامَ قيمةٍ أخلاقيةٍ ملفتةٍ قبل أن يضعَنا أمام قيمةٍ إبداعيةٍ استثنائيةٍ، من دون أن يصرِّح بالقيمتين معا.
نفتقدُه في ظل هَذَرٍ بالجُمْلةِ. في ظلِّ متطفلين على الإيقاع، عدا التطفلِ على الشعر، في ظل مخلِّصي نصوصٍ يكادُ أكثرُهم أن يزاحمَ بعض المخلِّصين الجُمركيين.
لحياتِكَ الأخرى مذاقٌ ورؤيةٌ وحِصةٌ وقيمةٌ واستثناءٌ نَغبِطُكَ عليها جميعا، وأنت أهل لكل سمو.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2743 - الأربعاء 10 مارس 2010م الموافق 24 ربيع الاول 1431هـ