«أنا أتصوّر دائما أن الشعر هو رؤية، ولا عيب أن يتخذ الشاعر موقفا، بل هو ملزم أو هو مطالب بذلك، لكن الشعر قبل كل شيء هو رؤية من رؤى العالم، وأنا أميل أكثر على الأقل في السنوات الأخيرة إلى أن الشعرية تخاطب المأنوس، تخاطب المعيش اليومي الذي تقترب من الحياة. أنا أتصوّر دائما وهذا يقوله حتى كبار الشعراء وتجده عند العرب وعند غير العرب أن الشعرية ليست هذه التهويمات الاستعارية التي يتصورها بعض شعرائنا من الشباب وحتى من كبار السن، وإنما الشاعرية كيف تلامس الأشياء باللغة».
جاء ذلك خلال حوارنا مع الشاعر والأكاديمي التونسي المنصف الوهايبي في برنامج «مسامرات ثقافية» والذي يبث اليوم على «الوسط أون لاين» على هامش استضافته في بيت الشاعر إبراهيم العريض.
الشاعر المنصف الوهايبي درست الشعر العربي القديم من خلال رسالتك في صناعة الشعر عند أبي تمام ، قراءة القدماء في النص الشعري، كيف وجدت تناول القدماء لحداثة أبي تمام، وإلى أي مدى مازالت هذه الشعرية حاضرة وقادرة على الاستمرار حتى يومنا الحاضر؟
- أنا درست شعر أبي تمام في إطار رسالة دكتوراه الدولة، وكنت قبل ذلك بسنوات درست شعرية أدونيس في إطار دكتوراه الحلقة الثالثة. وإن عودتي إلى أبي تمام مكّنتني من فهم جوانب غير قليلة في الشعرية العربية القديمة، لأن ما يلفت الانتباه في شعريته أنه الوحيد الذي أطلق عليه القدماء - من أنصاره وخصومه - صاحب المذهب الشعري، وكانوا يقولون مذهب الطائي، مذهب أبي تمام، ولم يطلقوا هذا الاسم أو هذه التسمية حتى على شاعر كبير بحجم أبي الطيب المتنبي أو على أبي العلاء المعري.
ومن هذا الجانب حاولت أن أكتشف سرّ هذه التسمية وسرّ هذه الشعرية، وكان أن عدت إلى قراءة كتب ودراسات كثيرة تتعلق أولا باللغة العربية، ثم تتعلق بالأوزان وبالإيقاع، وكتب أخرى حديثة جدا تتعلق بالشفوية وبالكتابية حتى توصلت إلى إدراك هذا البعد الرمزي في شعرية أبي تمام، والذي يشبهه أدونيس - وربما هو محق إلى حدٍّ ما - برمزية مالرميه عند الفرنسيين.
ما يلفت الانتباه في شعرية أبي تمام هذا الاشتغال على اللغة العربية، وهي شعرية اللغة بامتياز، وأظن أن هذه الشعرية تتواصل في نصوص الكثيرين من شعراء المشرق خاصة، ربما مع الشاعر أدونيس، وبعض شعراء قصيدة النثر، وربما عند شعراء كبار يحبون أبي تمام.
أنا التقيت محمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وأعرف مثلا أن محمود درويش يفضل شعرية المتنبي، سعدي يوسف وأدونيس يفضلان أكثر شعرية أبي تمام، وأنا أيضا أذهب هذا المذهب، ولو كان المجال يتسع لقارنت لك بين الشاعرين، فشعرية المتنبي هي في حدود سلطة الشعر، بينما عند أبي تمام هي في سلطة اللغة، وهذا هو الجميل في الشعر.
وعندما تكون هناك مساحة بين ذاتك وبين الآخر، وعندما يصبح الشعر هو الآخر أيضا.
تشير إلى أن الحلم بالشعرية من أول القصيدة إلى آخرها صورة متخيلة، كيف تقرأ الشعرية التي لا تكتمل مظاهرها ولا تكمن إلا من خلال القصيدة نفسها؟
- أنا في الحقيقة تناولت هذا الموضوع من خلال طرحي لسؤال ما انفك يُطرَح، وهو «ما هو سؤال الشعر؟» وتوصلت إلى استنتاج أجده سائغا مقبولا، ثم قرأت منذ أشهر قليلة فقط في فرنسا «سونيت» قبل وفاته أيضا توصلت إلى النتيجة نفسها وسعدت بذلك. محصلة هذا الاستنتاج هو أنه لا يوجد فن اسمه الشعر، فهذا من قبيل الكليات، والذي يوجد هو القصيدة. الظاهرة هي التي توجد، والشعر ينشأ في الحقيقة عندما نختتم قراءة القصيدة، عندما نستمع إلى قصيدة، إذا الشعر هو ما يحصل عقب القصيدة، ويقع في نهايتها، ولهذا هو لا يُحَدّ، ونحن دائما نقول: الشعر يُعرف ولا يُعرّف. وتستطيع أن تقول هذا شاعر وهذا ليس شاعرا، وقد تقول لي ما هي مقاييسك وما هي معاييرك؟ المعايير والمقاييس شتى، هذا يعود إلى جمالية التلقي، يعود إلى طريقة التذوق، يعود إلى اللغة، يعود إلى حسك اللغوي.
فالحلم بالشعرية يتصور بما ذكرت، وثمة عبارة أحبها كثيرا لأكتافيو بارز الشاعر المكسيكي، يقول: الشعر هو بين الذي أراه والذي أسمعه، الذي أحلم به والذي أنساه وما إلى ذلك، هناك يكون الشعر. الشعر دائما في هذه المسافة الرجراجة الغامضة، ولهذا لا يُعرّف لا يُحدّ.
درست الحماسة الشعرية، وربطتها بالشعر الملحمي، كيف ترى حضورها الآن؟ هل تكمن الحماسة الشعرية على مستوى الحضور في الحدث السياسي وما ينتج من شعر سياسي؟
- إذا كانت الحماسة بالمعنى الملحمي - وأنا أميل إلى هذا التفسير بالفعل، وهناك من ذكره قبلي أيضا - فيمكن القول إن شعرنا العربي القديم لم يعرف الملاحم، إلا إذا نظرت إلى مدونة الشعر الجاهلي، كله؛ طرفة، امرؤ القيس، الأعشى، عنترة، إذا نظرت إلى كل هؤلاء عند ذلك يمكن أن تتحدث عن بُعد ملحمي.
و«الحماسة» مصطلح عميق الغور في ثقافتنا العربية، ويمكن أن تكون هناك حماسة المدح وحماسة النسيب وحماسة الفخر، بخلفية دينية عميقة، وهذا لم يُدرس بالقدر الكافي. ولكن فيما يخص اليوم فأظن أن الرواية ربما تشتغل بهذا الجانب. هناك روائيون عرب كبار مثل نجيب محفوظ يمكن أن نعتبره صاحب ملحمة، لكن بالمعنى الحديث للكلمة، ربما روائيون آخرون أيضا في لبنان أو في الشام.
كيف تقرأ التعاكس الشعري بين الشعرية نفسها كصورة فنية وقصيدة ناجزة، وبين شعر الموقف، أو شعر السياسة؟ كيف تقرأ حالة التماهي أو التعاكس بين الشعرية وبين الموقف أو شعر السياسة؟
- أنا أتصور دائما أن الشعر هو رؤية، يمكن أن يكون موقفا، لا عيب أن يتخذ الشعر موقفا، بل هو ملزم أو هو مطالب بذلك، لكن الشعر قبل كل شيء هو رؤية من رؤى العالم، وأنا أميل أكثر على الأقل في السنوات الأخيرة إلى الشعرية التي تخاطب المأنوس، تخاطب المعيش اليومي الذي تقترب من الحياة. أنا أتصور دائما وهذا يقوله حتى كبار الشعراء تجده عند العرب وعند غير العرب أن الشعرية ليست هذه التهويمات الاستعارية التي يتصورها بعض شعرائنا من الشباب وحتى من كبار السن، وإنما الشاعرية كيف تلامس الأشياء باللغة.
ما تعليقك الآن على أن الشعر الآن ليس له جمهور؟
- بالفعل هذه ظاهرة ربما مقارنة بالفنون الأخرى، القصيدة ليست هي الأغنية، ولكن أنا أقول دائما إن الشعر لا يحتاج الجمهور، الذي يحتاج إلى الشعر هو اللغة، اللغة تحتاج إلى الشعر، تصور أن لغتنا العربية هذه لولا شعراء الجاهلية وشعراء القرون الإسلامية الأولى، لولا هؤلاء الشعراء من المعاصرين كيف سيكون حالها؟ لأن الشعر هو الذي ينفخ في اللغة، والشعر يجعل اللغة رحبة واسعة، بحكم أن الشعر هو لغة المجازات ولغة الاستعارات وما إلى ذلك.
فإذا قد لا يحتاج الجمهور إلى الشعر أو قد يكون محبو الشعر قليلين في العالم كله، ولكن لاشك أن اللغة التي لا تعرف شعراء كبارا لا يمكن أن تكون لغة الحياة.
كيف حال علاقة الشعر باللغة في هذا العصر؟ هل مازال الشعر يثري اللغة في هذه اللحظة الراهنة؟
- أتصور أن الشعر دائما يغني اللغة، اقرأ الصحافة العربية، ولغة الصحافيين العرب وستتبيّن أثر الشعرية فيهم، اقرأ روايات نجيب محفوظ وكل هؤلاء الروائيين العرب وستتبيّن أثر الشعرية. الشعرية ليست القصيدة، الشعر أعمّ وأشمل، الشعر يؤثر في كل شيء ولكن التأثير قد يكون بطيئا وقد لا نتنبّه إليه.
ترى أن اللغة العربية التي نتكلمها ليست هي اللغة الفصيحة أو ليس من الضروري أن تكون كذلك، وأن القدماء ما كانوا يتكلمون هذه اللغة، وأن استهواءنا للغة فصيحة التي نحاول التواصل بها ما هي إلا صورة متخيّلة، وأن القدماء ما كانوا يتحدثون بهذه الصورة التي نحاول أن نتحدث بها الآن.
- بالفعل، هذا نتأكد منه عندما نعود إلى المصنفات القديمة، يكفي أن نعود إلى الجاحظ مثلا ونرى كيف أن الجاحظ كان يسخر من العلماء الذين كانوا يتكلمون العربية خارج حلقة العلم، خارج مجالس العلم، أنا مثلا أستاذ عربية أتكلم العربية في الفصل مع طلبتي، ولكن عندما أغادر الصف وأكون في الشارع أو في المقهى أو في البيت فأنا أتكلم لغة أخرى، أتكلم اللهجة المحكية كما يفعل أكثرنا.
هناك خطأ شائع عندنا نتصور أن الشعر الجاهلي مثلا هو لغة العرب في ذلك العصر، لا، هذا ثابت بالدراسات أن تلك العربية هل لغة فنية مقدسة تعهدها الشعر، ثم بطبيعة الحال النص القرآني لاشك هو الذي وضعها في تلك المنزلة اللائقة، ومن هنا هي حُفت بقداسة مثيرة، وهي لغة فنية في الحقيقة، لغة فنية بالمعنى النبيل، ولغة شعرية أيضا، فالعربية لغة شاعرة من ذاتها، في اشتقاقاتها، في قياساتها، في إيقاعاتها، في تراكيبها، هي هذه اللغة العجيبة التي يسميها العرب لغة الضرورة، الحذف الإضمار الالتفات التقديم، التأخير، كل هذا في الحقيقة يضفي على العربية ضروبا من الإيقاع، وبالتالي هي لغة فنية، لغة شعرية، لا يمكن أن تستمع لشخص يتكلم لغة عربية فصحى في الشارع، وإلا لاعتبره الناس كأنه يخرج من مسلسل تلفزيوني.
كيف تقرأ حضور المكان كفضاء خاص وفضاء عام، وخصوصا عندما نحاول ترميزه في شاعر أو في ذاكرة جماعية ونستهويه؟
- أنا سأحصر حديثي في الشعرية العربية، حتى القديمة. الشعر العربي القديم في الأساس انبنى على إيقاع المكان أو المزاوجة بين إيقاع المكان وإيقاع الزمان، ويُوجد ناقد فذ أندلسي تونسي هاجر إلى الأندلس وكتب في الأندلس كتابه وهو حازم القرطاجني صاحب «منهاج البلغاء»، حازم القرطاجني يبيّن بلغة مفهومية عميقة كيف أن الشعر العربي في نماذجه الأولى، وتحديدا فيما نسميه النسيب أو الوقفة الطللية أو الغزلية القديمة في مقدمة القصيدة كيف أن هذا الشعر كان يُعيد بناء البيت المضروب، السكن، الخباء، الخيمة، يُعيد الشاعر بناءه بواسطة اللغة، وهو تفسير مقنع جدا ويدلّ على أن كلمة البيت هو البيت للسكن كما هو البيت اللغوي، وهو البيت المكان بكل ما فيه من أشياء ومن مفردات ومن معيش.
وهناك اليوم عودة إلى المكان في الشعر نجدها عند شاعر عراقي كبير (سعدي يوسف)، شاعر الفضاء والمكان، تجدها أيضا عند قاسم حداد في البحرين، تجدها عند أحمد عبدالمعطي حجازي، عند محمود درويش، أنا حاولت أيضا في كثير من الكتب أن أفعل ذلك، كتبي القليلة التي نشرتها وهي في حدود الثمانية، كتبي الشعرية، لدي كتاب اهتممت فيه بالمكان التونسي، سمّيته (مخطوط تمبوكتو) وعدت إلى استنطاق المدن التونسية سواء في تاريخها أو سواء في حداثتها.
تقول (سافر بي الشعر إلى أماكن كثيرة) ولكن تظل متعلقا بالقيروان، كيف وجدت الحضور الشعري على مستوى الاحتفاء به وتلقيه في تجوالك في المدن العربية، هل استطاع الشعر أن يصنع مدينته المُتخيّلة؟
- أظن إلى حدّ ما، أنه بصدد بنائها. أُتيح لي أن أزور صنعاء، البحرين، بيروت، بغداد، القاهرة، فاس، طنجة ومدنا أخرى أجنبية أيضا أحبّها كثيرا كالبرتغال، لشبونا، غرناطة خاصة، وكلها تتشكل من خلال مدينتي القيروان لأني أسافر لأيام قليلة وأعود إلى القيروان، وعندما يكون لديّ مشروع شعري أو مشروع قصيدة فهي قد تبدأ في المكان أو في المكان الآخر ولكني أستكملها عادة في القيروان، فمن هنا أيضا يجب أن تكون القيروان حاضرة بشكل أو بآخر حتى في مدينة هي ليست القيروان.
تجد التلقي الشعري على المستوى العربي الآن في هذه الفترة الراهنة؟
- هذا يختلف حسب البلدان العربية، مثلا في تونس تجد عندنا أهل الجنوب أكثر إقبالا على الشعر، لاحظت في صنعاء أن هناك إقبالا ما على الشعر، وكذلك في المغرب يختلف باختلاف المدن، ثم بأسماء الشعراء أحيانا؛ لأن المشكل اليوم ليس في الشعراء أساسا، ليس في الشعر، الشعراء ابتعدوا بالشعر كثيرا، وأنا أتصوّر دائما أن الشعر هو الفن القريب من الناس، بل هو فننا العربي النبيل ويجب أن نعيده إلى الناس.
العدد 2743 - الأربعاء 10 مارس 2010م الموافق 24 ربيع الاول 1431هـ
شكرا لكم
تحيةشعرية لكم ولشاعرنا التونسي و استاذي المؤطر في رسالة الماجستير محمد المنصف الوهايبي.
موضوع البحث الذي اقوم به هو : الشعري والسياسي من خلال نماذج من شعر نزار قباني