لا نعلم منذ متى بدأ الإنسان يقدس النباتات ربما منذ اللحظة الأولى التي تعرف فيها الإنسان على النباتات لدرجة أننا لا نكاد نجد ثقافة لا تقدس شجرة معينة. أموت دافني في بحثه (Dafni 2006) الذي يناقش فيه أسباب تقديس الأشجار يبين لنا بوضوح توغل ثقافة تقديس الأشجار في عدد كبير من الثقافات التي تمثل عدد كبير من الديانات كاليهودية والمسيحية والإسلام بجميع مذاهب تلك الديانات بالإضافة للديانات غير السماوية أيضا, وذلك التقديس ليس حصريا على نوع معين من الأشجار بل أنواع مختلفة منها وبذلك نستنتج أن أعدادا, أو أنواعا غير قليلة من الأشجار قد اقتحمت الحياة الاجتماعية للإنسان وفرضت لنفسها الكثير من الطقوس الدينية والمعتقدات إلى حد التقديس أحيانا.
هناك أسباب عديدة جعلت من الإنسان يقدس أنواعا من الأشجار وذلك بحسب نوعية تأثير نوع من الأشجار على جماعة معينة وبذلك قد نجد جماعة ما تقدس نوعا من الأشجار لسبب خاص بها, وقد اعتمد «أموت دفني» في بحثه السابق الذكر على عدد كبير من المراجع ليستنتج منها أهم الأسباب التي جعلت ثقافات معينة تقدس شجرة معينة وقد لخص أهم 24 سبب منتشر في أجزاء مختلفة في العالم أدت لتقديس أنواع مختلفة من الأشجار (جدول رقم (1)) من تلك الأسباب الأهمية الاقتصادية للشجرة أو أن تكون الشجرة محل لإقامة روح قديس أو والي صالح أو أن تكون موجودة في مكان مقدس أو أنها تخلد ذكرى بطل أو شخصية معينة وغيرها من الأسباب. ويجب أن نعلم أنه يكتفى بسبب واحد أحيانا لتقدس شجرة ما وكلما زاد عدد أسباب التقديس كانت الشجرة أكثر تقديسا.
وفي الموروث الديني الشعبي لدى شرائح كبيرة من المسلمين اكتسبت بعض الأشجار قدرا من التقديس مثل السدرة والنخيل, ويلاحظ بأن النخيل على وجه الخصوص قد أنجبت معها نوعا من الميثولوجيا الدينية والكثير من الحكايات التي ربما لا يكون لها أساسا علميا بقدر ما ينطلق ذلك من كون هذه الشجرة معطاء وافرة الخير وقد باركها الرسول (ص) لفوائدها الاقتصادية.
هي شجرة متباينة في الطول فقد يصل ارتفاعها إلى خمسة أمتار فأكثر وتسمى سدرة وتسمى أيضا شجرة النبق وتسمى الثمرة النبق وتعرف الثمرة في البحرين ومناطق عدة في الخليج باسم «الكنار», ويوجد من السدرة نوعان أحدهما يسمى عبري أو بستاني تنتشر زراعته في الحقول والحدائق وتؤكل ثماره، والآخر يسمى ضال أو بري وهو النوع الفطري المنتشر بالمناطق البرية والأودية.
في البحرين وشرق الجزيرة العربية والكويت وربما مناطق أخرى في الخليج العربي تسمى ثمرة السدرة الكنار وعليه تسمى السدرة أيضا شجرة الكنار, واسم الكنار اسم ضارب في عمق التاريخ وربما كان من أصل آرامي واصل التسمية «كاناري», وهذه التسمية الأخيرة وردة بمعنى السدرة في التلمود البابلي الذي يعود تاريخه لما بين القرن الثالث والقرن الخامس الميلادي. ويرى دافني وزملائه (Dafni et. al. 2005) أن اسم كناري ربما اشتق من اسم بحيرة كينيرت وهو الاسم العبري لبحيرة طبرية أو بحر الجليل بسبب كثرة أشجار السدرة بالقرب منها. وربما كان العكس صحيح أي أن البحيرة سميت باسم السدرة أي الكاناري أو الكنار وأرى أن هذا هو الأرجح بسبب أن اسم الكنار منتشر في المناطق التي تأثرت بالآرامية قبل الإسلام.
أما الاسم العلمي للسدرة فهو Zizyphus spina-christi والاسم النوعي له أي spina-christi تعني شوكة المسيح ومنه الاسم الإنجليزي Christ>s Thorn حيث زعم المسيحيون أن من أغصان هذه الشجرة الشوكية تم صنع الإكليل الذي وضع على رأس ما شبه لهم بأنه المسيح (ع) عندما صلبوه.
حظيت السدرة بنوع غريب من التقديس في ديانات وثقافات مختلفة وقامت حولها العديد من الطقوس والمعتقدات الشعبية التي لا تمت إلى حقيقة الدين بصلة, وحتى عند المسلمين بطوائفهم المختلفة فإن هناك مكانة خاصة للسدرة وهي أعلى مكانا حتى من النخلة على الرغم من أن النخلة ورد ذكرها في القرآن الكريم في واحد وعشرين آية وأكثر من ثلاثين حديث (السعيد 1985), وهذا أحد أسباب تقديس النخلة, في حين لم يرد ذكر السدرة إلا في أربع آيات فقط. لقد سبق أن ذكرنا أن درجة التفاوت في تقديس الأشجار تعتمد على عدد أسباب التقديس فكلما كثرت أسباب التقديس ونوعيته زادت درجة التقديس معه, فلو نظرنا للنخلة لوجدنا أنها محل تقدير وقدست في الماضي بسبب الأهمية الاقتصادية التي لعبتها بالإضافة لمباركة الرسول الأعظم (ص) لها, بينما أسباب تقديس السدرة أكثر بكثير من ذلك وقد بحث دافني وزملاؤه (Dafni et. al. 2005) في بحثهم الذي خصص لدراسة «إثنوبوتاني السدرة» أو «ثقافة السدرة» عن أسباب تقديس السدرة في الوطن العربي من النواحي التاريخية والدينية والأدبية واللغوية وغيرها.
يستخدم ماء منقوع أوراق السدرة في تغسيل الموتى. كذلك كانوا قديما في البحرين كما في دول الخليج العربي الأخرى يحضرون مسحوق أوراق السدرة وذلك بجمع أوراق السدرة الخضراء وتجفيفها ومن ثم دقها بالهاون حتى تتحول إلى مسحوق حيث يستعمل هذا المسحوق في غسل الرأس وله رغوة عجيبة ورائحة طيبة, وكان يباع عند العطارين (الحواويج, مفردها حواج) وبحسب زعم أهل الخبرة فمسحوقه يقضي على القمل وينعم الشعر. وفي الوقت الراهن هناك شركات تحضر وتبيع مسحوق أوراق السدرة بصورة تجارية وفي الأسواق العالمية.
بالإضافة لأهمية السدرة من حيث توفير الظل حيث كان الناس يستظلون تحت أغصانها أو اتخاذ الأخشاب منها لتستخدم كوقود وصنع بعض الأدوات الخشبية فقد استخدمت أجزاء مختلفة من السدرة كدواء ويعدد دافني وزملاؤه (Dafni et. al. 2005) استخدام أجزاء مختلفة من السدرة كالثمرة والأوراق وقطع من قشرة الجذع وذلك في علاج أكثر من أربعين حالة مرضية وكل تلك الاستخدامات الطبية منتشرة في الوطن العربي, من تلك الفوائد أن الثمار تنظف المعدة وتنقي الدم، وتعيد الحيوية والنشاط إلى الجسم, كما يستخدم مهروس الأوراق في عمل لبخات لعلاج المفاصل, وقشور الجذع اليابسة يمكن أن تطحن وتستعمل في معالجة الحروق والجروح.
يقول يوسف الهندي في لقاء معه نشر في صحيفة «القبس» الكويتية «كان بعض الآباء يعتقدون أن الجن يسكنونها، وكان أهل الزار يجتمعون حولها، خصوصا السدرات الأربع في الشرق، ولكل فرقة منهم آلاتها الموسيقية المكونة من الطبول وآلات وترية تسمى «طنبورة» وأغلبهم كانوا يجتمعون يوم الخميس بعد صلاة العشاء، اعتقادا منهم بأن للسدرة قدسية راسخة عندهم، وللسدرة حكايات شعبية كثيرة سواء انعكست على البعض أو لا يصدقها البعض الآخر».
وكذلك تستخدم الأوراق بعد طحنها ووضعها في الماء ليرقى بالرقية الشرعية فيشرب منها المريض بالسحر أو المس ويغتسل بالماء لإبطال السحر وخاصة سحر الربط عن الجماع أو باقي أمراض السحر والمس.
في مجلة «الصوت الآخر» العراقية يذكر «الأديب والتراثي الحاج عباس مجيد بأن كثيرا من الناس يعتقدون بأنه لا يجوز المساس بشجرة السدرة أو إيذاؤها لأنها شجرة سماوية ويمكن أن تنتقم من الذي يقوم بقطع غصن منها أو يقوم بفعل مشين تحتها أو على جذعها, وكثير من أهالي بغداد القدامى كانوا يحرصون على زراعتها في بيوتهم طلبا للبركة, وإذا أراد أهل البيت أن يقلعوا الشجرة لأنها ماتت أو لغرض إجراء توسعة في بناء المنزل فإن عليهم أن يقرأوا بعض الأدعية, ثم ينحروا لها ديكا أو دجاجة, والديك عادة هو المفضل, وهو ما يعرف بـ (فجران الدم)».
ومثل هذا القول كان متعارف عليه في مناطق أخرى في الخليج العربي ويبدو أن لهذا التقليد علاقة بأحاديث شريفة للرسول الكريم (ص) نهى فيها عن قطع أشجار السدرة البرية وحذر من عاقبة ذلك، حيث قال: «من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار» وقال أيضا: « لعن الله قاطع السدرة». والمرجح أن هذه الأحاديث تنتمي لمجموعة أحاديث شريفة نهى فيها الرسول عن قطع الأشجار بصورة عامة وهذا ليس بالجديد فمن العصور القديمة وهناك تشريعات صارمة بخصوص قطع الأشجار وقد تناولنا بعضها عن حمورابي في الحديث عن قطع النخلة, وعليه يفهم من الحديث أن من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار. ورأى البعض في هذا الحديث تفسير آخر.
أول قبة أو سقيفة أقيمت على قبر الحسين (ع) كانت من قبل قبيلة بني أسد على زمن الأمويين وبعد فترة زرعت بالقرب من القبر سدرة. وفي زمن العباسيين أمر هارون الرشيد بهدم القبر المطهر، وكرب موضعه، وقص شجرة السدرة التي كانت بجوار القبر من جذورها سنة 171 هـ، ومنع إقامة المآتم والمناحات، سواء على القبر، أو في دور ومجتمعات الشيعة ومجالس العزاء. ويذكر الشهرستاني في كتابه «تاريخ النياحة»:
«أخرج الشيخ محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة في أماليه حديث كرب الرشيد قبر الحسين عليه السلام رواه بإسناده إلى المصفن عن يحيى بن مغيرة الرازي، قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاء رجل من أهل العراق، فسأله جرير عن خبر الناس. فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين (ع) وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت، فرفع جرير يده إلى السماء وقال: الله أكبر، جاءنا فيه حديث عن رسول (ص) أنه قال: لعن الله قاطع السدرة ثلاثا، فلم نقف على معناه حتى الآن: لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لا يقف الناس على قبره... « ويتابع الشهرستاني «ويوجد إلى الآن باب من أبواب الصحن الشريف يسمى باب السدرة ولعل السدرة كانت عنده أو بجنبه».
يبدو من المعطيات السابقة أن السدرة قد صنعت لنفسها مكانة خاصة عند الشعوب وبالخصوص عند المسلمين, فعند شعوب العالم يكفي أن يكون هناك سبب أو أكثر لتقدس شجرة ما، بينما عند المسلمين عدد من الأسباب لتقديس السدرة منها:
1 – يغسل بماء أوراقها الموتى.
2 - توفر ظلا عن الشمس في الصحراء.
3 - تنمو في مكان مقدس أو مقبرة.
4 - لها أهمية اقتصادية.
5 – تشير أو تعلم قبر أو مكان مقدس.
6 – ارتبطت بالجن والأرواح.
ومن مظاهر التقديس أنك لا تجد بلد عربي يخلو من مسجد يسمى «مسجد السدرة» وأحيانا تجد في البلد الواحد كالبحرين مثلا أكثر من مسجد يحمل اسم السدرة, ومن المظاهر المبالغ بها أن تقوم جماعة من الناس بالنذر للسدرة وهذا مظهر ليس حصري على بلد بعينه أو طائفة دون أخرى, وبعض أشجار السدرة قد تحمل أسماء وهي من المظاهر التي انقرضت أو تكاد. هناك كم كبير من مظاهر تقديس السدرة ويكفي أن تضع الكلمة في محرك البحث على شبكة الإنترنت لترى العجب من مظاهر التقديس منتشرة في العالم العربي بجميع أطيافه وطوائفه الدينية.
العدد 2743 - الأربعاء 10 مارس 2010م الموافق 24 ربيع الاول 1431هـ