الصورتان اللتان ستبقيان في ذهن المشاهد العربي و العالمي من حوادث الأسبوع الماضي، هما صورة رفات الشيخ احمد ياسين وهو يوضع في قبره وقد شوهته القنابل الحارقة، وصورة الطفل الفلسطيني وهو مفخخ وحول خصره أصابع الديناميت، رافعا يديه إلى أعلى مشيرا إلى الجنود الإسرائيليين بالاستسلام. هاتان الصورتان تشكلان مأزق العربي المعاصر.
بعد اغتيال الشيخ ياسين وهو اغتيال بكل المعايير خارج عن أية قواعد إنسانية أو غيرها في الصراع الدائر، كونه رجلا عاجزا، وكونه قائدا لفصيل من شعب يناضل من اجل الحصول على حريته، بعد اغتياله، تغلبت كالعادة العاطفة على كثيرين، فبدأت الكلمات والتصريحات الحارقة تخرج من أفواه بعض الزعماء ورجال السياسة وكأن لا قيود عليها، فقيل ضمن ما قيل إن «أبواب جهنم قد انفتحت»، كما قيل أيضا ان المصالح الأميركية مهددة في العالم اجمع.
وان كان يجوز أن تطلق مثل تلك الشعارات من أناس غير مسئولين عن نضال شعب، فذلك قد يكون مبررا أو مفهوما، ولكن أن تطلق من خلال مقابلات رسمية لقيادات رسمية فانها تحتاج إلى نقاش عاقل على الأقل إن لم تكن تستنهض الشجب.
آخر مرة سمعت فيها أن «أبواب جهنم ستفتح في المنطقة» كانت في الأشهر السابقة للحرب في العراق، وقد تم ما تم مما نعرف من حرب واحتلال للعراق، ووجدت كما وجد غيري أن «أبواب جهنم» التي حذر منها كثيرون، تنقلب بعد اثني عشر شهرا لا غير، إلى مؤتمرات في عدد من العواصم العربية تجمعت تحت شعار: «كيف نساهم في إعمار العراق». حقيقة هذه المؤتمرات هي: كيف نشارك في أرباح بلايين الدولارات التي من المفروض أن تتدفق في العراق لإعادة البناء؟ فإذا كانت أبواب جهنم تنتهي إلى ذلك، فأية جهنم نتكلم عنها!
اعرف أن الذي يجري في العراق يختلف كثيرا عما يجرى في فلسطين، ولكني أيضا أرى أن هناك الكثير من الكتاب من أصحاب (الخطاب التقليدي) مازالوا يذكروننا أن الحالتين متطابقتان، وهو أمر تنفيه الوقائع.
إلى جانب الخطاب التهديدي، فإن أفضل ما حصل للإسرائيليين دعائيا في الغرب هو إرسال الطفل المفخخ بالمتفجرات، إذ اختفت بعد قليل صورة احمد ياسين واختفت معها مظاهر الحزن المنقولة من الأراضي الفلسطينية في الإعلام العالمي، لتظهر بديلا عنها صورة الطفل الفلسطيني، وهو يستسلم وحول خصره حزام ناسف، التي جعلت من العالم يتساءل: أية مقاومة تلك هي التي ترسل طفلا يخاف من ظله ليفجر نفسه وسط ثلة من الجنود وغيرهم خصوصا المدنيين، في الوقت الذي يعرف كثيرون أن الصورة هي التي ولدت الإقناع في عصرنا.
الكثيرون من العرب كتبوا عن عقم أوامر «قتل النفس» التي قد تأتي بمردود نفسي مريح للبعض، إلا أن مردودها السلبي على القضية لا تحده حدود، ولا يريد احد أن يتعلم من الدرس أو يستفيد من الخبرة السابقة.
أما الحديث عن توسيع مجال الصراع وإخراجه عن حيزه الجغرافي والمكاني في فلسطين إلى أماكن أخرى من هذا العالم الفسيح، فهو إن تم سيكون أفضل هدية يقدمها أي كان للحكومة الإسرائيلية الحالية، وربما تكون الهدية التي يريدها وينتظرها آرييل شارون شخصيا، إذ تمكّنه من الادعاء أن ما يقوم به هو الصحيح. صحيح أن تصريحات توسيع رقعة الصراع قد تراجع عنها بعد ذلك، لكن السؤال هو: لماذا أطلقت في الأساس؟!
تساءل البعض أيضا عن قضية لابد من طرحها، وهي: كيف يترك القادة الفلسطينيون أنفسهم، وهم القادرون على التخفي وسط شعبهم، عرضة للاصطياد من قبل الطائرات والصورايخ الإسرائيلية، وكأنهم لا يعرفون العدو الذي يحاربون؟
كان ولا يزال بامكانهم الاختفاء وأخذ الحيطة، فهم لا يعيشون ويعملون في بيئة بعيدة عن الخطر، خصوصا أن هذا الخطر معلوم للكافة.
إذا كان الخطاب العربي يهوى الشجب والمناصرة اللفظية ورفع حال التهديد والوعيد، فإن العالم ينتظر شيئا آخر له علاقة بالحوار السياسي، واستحضار الكثير من الاحترام والتفهم لهذه القضية الإنسانية والسياسية التي يبدو أن الكثيرين من دعاتها تأخذهم العاطفة فيفرطون في السعي الحثيث لإقناع الحشد الدولي تجاه قضيتهم، بتقديم الذرائع وتبريرها للعدو.
البكاء على الماضي لا يفيد أحدا، ولا التحسّر على ما فات، ولكن استمرار تصريحات الجهل الذي يقود إلى الخسارة المستمرة يجب أن يعاد النظر فيها، وليس أفضل من اللحظات التاريخية الصعبة لتأكيد الثوابت وإعادة طرح القضية كما هي.
الإرهاب مفهوم واسع وله دلائل معاصرة تستدعي الكثير من السلبية لدى المجتمع العالمي، وتتوسع هذه السلبية بربطها اليوم بالعرب، ومن دون أن يفكر الفلسطينيون، وخصوصا قادتهم من كل ألوان الطيف السياسي في خطاب مختلف، سيظل الأمر مجرد ردود فعل تحشد لها الجماهير لفترة ثم تنسى
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 571 - الإثنين 29 مارس 2004م الموافق 07 صفر 1425هـ