جزء من المشكلة التي نعايشها حاليا يعود إلى نوعية الثقافة التي تنتشر في بعض الأوساط. فهناك الحديث المركز على «الموت» و«عشق الموت»، وهو أمر ليس سيئا للغاية لو اكتملت المعادلة. فالإمام علي (ع) يقول: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا».
المعادلة إذن لها جانبان، أحدهما دنيوي يتطلب من المرء أن يخطط لحياته وكأنه سيعيش أمدا طويلا، وأن تتوافر في هذه الحياة ظروف معيشية حسنة «ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» ( القصص: 77). والطرف الآخر يرتبط بالاستعداد للحساب أمام الله سبحانه وتعالى بعد الممات.
العمل للدنيا من دون خشية حساب الله خطير، وهو سبب المصائب الكبرى التي تعيشها الإنسانية. ولذلك فإن البشر يتحدثون عن الحساب الأكبر أمام الله (بالنسبة إلى المؤمنين) والحساب الدنيوي أمام الناس. فالإنسان يجب أن يكون مستعدا لمحاسبة الناس وأن يكون في الوقت ذاته مستعدا لحساب الله.
المحاسبة أمام الناس طورتها البشرية من خلال أجهزة المراقبة الحديثة والعمل البرلماني والصحافة والاحزاب والجمعيات الأهلية والهيئات المتخصصة. ولذلك فإن المجتمع الذي يقبل بمحاسبة الآخر - عبر المؤسسات المتطورة - هو الذي يستطيع ان يحقق نموا اقتصاديا واجتماعيا، بينما البلدان التي تمنع المحاسبة والعمل المؤسساتي ينهار وضعها السياسي والاقتصادي وتتحول العلاقات بين أفراد مجتمعها إلى علاقات حيوانية يأكل فيها القوي الضعيف.
المشكلة التي نلحظها هي إغفال الجانب المشرق للحياة الكريمة الهانئة. ولعل هذا ينطبق على حركات «الزهد» في تاريخنا الاسلامي التي تصل إلى حال الدروشة في بعض الأحيان. وعلى رغم أن التعليمات الإسلامية تحث على استذكار الحساب الأخروي فإن ذلك لم يكن في صدر الإسلام يعني عدم الاكتراث بالدنيا، وإلا لما قامت الحضارة الإسلامية بثقافتها ومدنيتها وعمارتها وآثارها المستمرة حتى اليوم.
المأثور في تراثنا الإسلامي ينص على أن الزهد «ليس ألا تملك شيئا ولكن الزهد هو ألا يملكك الشيء». وهذا يختلف اختلافا كبيرا عن الثقافة المتداولة في بعض الأوساط وهي ثقافة أقرب إلى أن تقول للإنسان «إنك يجب عليك أن تموت». الحديث المركز عن الموت ينعكس على تصرفات ونشاطات وبرامج المؤمنين بهذه الثقافة. فالحديث عن السياسة ليست له قيمة إلا إذا كان حديثا يرتبط بالموت والثورة والاقتتال، أما الحديث عن الاقتصاد فليس ضروريا لأن الذي يبحث عن الموت لا يهتم بالحياة أساسا بل ان الحديث عن الحياة وجماليتها وضرورة توفير وسائلها يقترب من اقتراف الذنب.
إن الاستماع إلى نوعية الخطاب السياسي المتداول في بعض الأوساط يوحي للإنسان بأنه خلق من أجل العذاب، اما قاتل أو مقتول، اما ظالم أو مظلوم، اما دكتاتور أو مضطهد، ولا يوجد شيء بين هذا وذاك... بل ان الخطاب يؤمن استحالة أن يتحسن الوضع، واستحالة التعايش السلمي مع الأطراف الأخرى، واستحالة أن تكون هناك نية سليمة من هذا الطرف أو ذاك... ولذلك فإن النتيجة المنطقية لمثل هذا الخطاب هو الرفض المطلق للدنيا ومتطلبات العيش الآمن فيها مع الآخرين. والخطاب السياسي الذي ينتج نهج الموت والبحث عن الموت لا يستطيع أن يتعايش مع وضعية أخرى قد لا تتطلب موته أو موت غيره لأسباب غير طبيعية.
فلنفكر كما أراد الإسلام لنا أن نفكر ولننظر الى التجارب البشرية الناجحة بشأن العلاقة مع أنفسنا ومع الآخرين ومع الدنيا، ولنر أن هناك الحياة ايضا التي تسبق الموت، وان السعي للحياة الحرة الكريمة لايتطلب الموت والاقتتال دائما وابدا، والا لما استمرت الحياة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 569 - السبت 27 مارس 2004م الموافق 05 صفر 1425هـ