استخدام الولايات المتحدة الفيتو (حق النقض) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار يدين اغتيال الشيخ أحمد ياسين يزيل «بقع الشك» في الموقف الأميركي من تبني السياسة الإسرائيلية. وهذا ليس جديدا ولكنه إعادة تأكيد لمواقف يراها البعض عرضة للتقلبات السياسية. إلا أن الفيتو الأخير يجدد الموقف الأميركي وهو أن واشنطن حسمت خيارها الاستراتيجي في المنطقة. والخيار واضح في معالمه الكبرى فهو يدفع مختلف القوى نحو الاصطدام وليس الإصلاح.
لا جديد في الموقف الأميركي. الجديد هو إعادة تذكير بعض التيارات السياسية التي أصيبت بالتفاؤل من «مشروع الإصلاح» بأن الإصلاح ليس هدفا برأسه وانما هو نتاج عمليات جراحية مؤلمة ستلجأ إليها واشنطن في الفترة المقبلة وفي حال جدد للرئيس الحالي لدورة ثانية. التجديد للرئيس جورج بوش مسألة وقت ولكنه غير مؤكد بعد انفضاح سياسته الخارجية امام الناخب الأميركي. والتصريحات التي أطلقها ويطلقها بعض كبار المسئولين السابقين تكشف يوميا وجود خلل بنيوي في الإدارة الحالية كذلك ترفع الغطاء عن سياسات ملتوية شجعت إدارة البيت الأبيض عليها لتسيير خطة كبرى في نظام العولمة الجديد.
إذا هناك عمليات جراحية مطلوبة ولكن الوقت قصير بين الوصول إلى الأهداف الكبرى والشهور التي تسبق الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني.
وحتى تتحاشى واشنطن احتمالات غير متوقعة قررت اغلاق ملفات يمكن أن تكون مصدر قلق لادارة البيت الأبيض. وللسبب هذا أعلنت واشنطن إعادة ترتيب وضعها العسكري في العراق وشجعت باكستان على التورط في حرب ضد القبائل المنتشرة على حدودها مع أفغانستان.
أمام إدارة بوش ثلاث خطوات تريد انجازها قبل الانتخابات الرئاسية:
الأولى الانسحاب إلى خطوط دفاعية في أفغانستان والعراق حتى لا تكون قواتها عرضة لضربات قاسية تفتح على واشنطن سلسلة أسئلة تتعلق بفشل بوش في مشروع مكافحة «الإرهاب».
الثانية تكليف قوى إقليمية القيام بمهمات عسكرية لا تستطيع واشنطن الآن تنفيذها لحسابات انتخابية محلية. ولهذا يتوقع في الشهور المقبلة أن تلعب باكستان دور الوكيل الإقليمي (المحلي) لمحاصرة بعض المناطق القبلية التي تعتقد واشنطن أن تنظيم «القاعدة» يستفيد منها لإعادة ترتيب صفوفه وشن هجمات على القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة. ويتوقع الآن وللحسابات نفسها أن تستعيد «إسرائيل» وكالتها الأمنية لفترة وجيزة بعد أن تراجعت قيمتها الاستراتيجية إثر سقوط العراق ودخول أميركا مباشرة على خطوط المواجهة العسكرية.
والخطوة الثالثة تبريد بعض الملفات الساخنة إقليميا ودوليا. فواشنطن الآن بحاجة إلى تحسين صورتها الدولية مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بعد انهيار جدار الثقة نتيجة لوصول كتلة الايديولوجيين إلى البنتاغون. كذلك تتجه واشنطن إلى تخفيف ضغوطها الإقليمية على الدول العربية (الإصلاح من الخارج) وسورية (تجميد قانون المحاسبة) وإيران (تكليف أوروبا بمتابعة الملف النووي).
هذه الخطوات الثلاث تريد واشنطن تحقيقها على مرحلتين: الأولى تنتهي في مطلع يوليو/ تموز المقبل. والثانية تنتهي في مطلع نوفمبر المقبل. وبعد ذلك تعيد النظر في النتائج فاذا فاز بوش بدورة ثانية تكون كل الادوات جاهزة للهجوم مجددا، فتسحب الوكالة المؤقتة من باكستان و«إسرائيل»، وإذا سقط فإنه يكون قد اتخذ كل الاحتياطات اللازمة للاكتفاء بسياسة الدفاع ويترك الخيارات الأخرى لخلفه (جون كيري).
من الآن حتى نوفمبر سيكون الوضع عرضة للتقلبات إذ ستلعب «إسرائيل» في فلسطين و«الشرق الأوسط الصغير» دور الوكيل المركزي الأمني للسياسة الأميركية لأن واشنطن ليست في وضع مريح داخليا يسمح لها بالتصرف كما كان الأمر قبل سنة. كذلك ستلعب باكستان الدور الإقليمي الأمني نفسه في أفغانستان وستكتفى أميركا بدور المراقب أو الضابط المشرف الذي يتدخل وقت الحاجة وحين تقتضي الظروف.
ضمن هذا الإطار يمكن قراءة التصعيد الإسرائيلي. فالاغتيال جاء في سياق التفاهم الثنائي وتحت سقف المشروع الأميركي في المنطقة العربية. وفيتو واشنطن في مجلس الأمن ضد مشروع يدين الاغتيال يغذي كل الشكوك عن دور أميركي خفي في المسألة. فشارون هو المنفذ وبوش هو الفاعل... لأنه يستفيد من توتير المنطقة
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 568 - الجمعة 26 مارس 2004م الموافق 04 صفر 1425هـ