نعم يجب عدم التساهل في الحقوق المشروعة للمواطن البحريني. نعم لابد من استمرار الضغط وعدم التواني للدفع في اتجاه توسيع رقعة الديمقراطية والإصلاحات التي تخرج هذا الوطن من مآزقه وأزماته التي كان وراءها سوء الإدارة. نعم يجب التذكير بأن المواطن الذي ضحى لسنوات طويلة تارة من أجل عدم إفساح المجال أمام الإنجليز للإساءة إلى حكامه، وتارة يضحي المواطن من أجل خروج الإنجليز واستقلال البحرين، وتارة يقف الشعب بكل صلابة بجميع أطيافه مصرا على عروبة البحرين ومؤكدا أن الشعب البحريني بجميع طوائفه مصرّ على بقاء الأسرة الحاكمة الخليفية على رأس البلاد وان هذا الوطن جزء من الوطن العربي الكبير ولا مساومة على عروبته ما وضع حدا لشهية شاه إيران في المطالبة به.
نعم هذا ما عهدناه في شعبنا بجميع أطيافه. بجميع إثنياته. بجميع توجهاته السياسية والعقائدية دينية كانت أم علمانية، فالشعب البحريني لا يبخل عند الحاجة إلى التضحية بالشيب قبل الشباب والنساء قبل الرجال ليواجه كل مخاطر الدنيا من أجل رفعة شأن هذا البلد.
وحتى بعض الأخطاء التي بدأ الشباب يقع فيها تأتي من منطلق الغيرة والمحبة لهذا الوطن الذي يريدونه خاليا من الفساد وخاليا مما يسيء إلى سمعة هذا الوطن الصغير الجميل... وخاليا مما قد يؤثر على أخلاقيات أبنائنا وبناتنا. لهذا ربما انزلقوا وسقطوا في غلطة تاريخية محسوبة عليهم لا لهم هذه المرة، إننا نريدهم أن يبرزوا في العلم ولا يكونوا مسيرين من كل من له مصلحة في أن يشعل هذا الوطن نارا، ولا نتمنى عليهم أن يحولوا الكلام التنويري الذي يسمعونه من بعض القيادات الدينية أو السياسية إلى كلام تحريضي، فحين يقول الشيخ على المنبر الحسيني اللهم طهر بلادنا مما يسيء إلى سمعتها ويؤثر على أخلاقياتها واجعل أبناءنا يتحلون بأخلاقيات الشهيد والمناضل الإمام الحسين بن علي صلاة الله وسلامه عليه فهذا لا يعني أن تتوجه أنت وزملاؤك من الحسينية إلى أقرب مطعم قد يبيع بعض المشروبات الممنوعة وتكسر وتتعارك. التحريض في خطاب هذا الشيخ أو السيد هو أنه كان يتحدث عن أشياء غير مشروعة في البلاد لكنه لم يكشف كيفية القضاء عليها. هب أنك قتلت إنسانا عند العراك، فكم يكون إثمك وكيف يكون حسابك عند ربك علما بأن هذه الامور يمكن حلها بأقل الخسائر، ومن خلال القنوات الرسمية ولو لم يتم علاج ذلك بعد طرق هذه الأبواب سيكون «فيه كلام ثاني» على رأي المرحوم الكابتن لطيف.
وحين يتحدث السياسي في جمعيات المجتمع المدني ويقول في خطابه كلاما تنويريا عن خطورة اتساع البطالة وعدم إيجاد وظائف للمواطنين وعلى الدولة أن تسارع ببحث حلول عملية لها وإلا قد يحدث ما لا تحمد عقباه، فهو خطاب تنويري موجه إلى المسئولين وليس كلاما تحريضيا. لكن قراءة الشباب وحماسه يحول تفسير الخطاب من تنويري إلى تحريضي، وعلى الشعب أن يعي ما يقوله هؤلاء السياسيون فهم لا يعنون أن يقوم الشباب بضرب الفقير الأجنبي وارتكاب إثم كبير عند الله وكأنهم لا يدركون أن هذا البائس لم يأت إلى البحرين أو أية دولة خليجية تاركا أطفاله وزوجته وأمه ووالده العجوز من دون وجه شرعي وركب المركب ونزل على شواطئنا ليضيق على حياتنا. ولو كان يجوز هذا العمل لجاز للأوروبيين والإسبان وخصوصا أنهم يقتلون كل مغترب عربي فقير عرض حياته للمخاطر ليعبر المحيط في بحر متلاطم الأمواج ومن خلال بانوش صغير أو ربما باع ذهب أمه وزوجته عله يحصل على لقمة له ولأسرته فهل يجوز إن وقع في يد إسباني أو إيطالي أن يؤذيه أو يقتله؟ إن هناك قنوات شرعية يمكن أن تحل هذه المشكلة ومن الإجحاف في حق هؤلاء الفقراء أن نزيدهم عذابا على ما يعانونه، علما بأن الآسيويين يأتون من قنوات شرعية وغالبيتهم يشتغلون في أعمال لا يرضى الكثير منا العمل فيها.
نعم، نحن نطالب وزارة العمل والشئون الاجتماعية بحل مشكلة البطالة، وعلى الجمعيات السياسية في مجتمعنا أن تواصل دورها المشروع في الضغط المستمر على الحكومة في حدود المعقول والممكن والمشاركة معها في البحث عن الحلول. وخير هذه الحلول في ظني إنهاء الفساد المالي والإداري الذي كان وراء تخلف هذا البلد واتساع رقعة البطالة، فهذا هو الأسلوب الصحيح. ومن الأخطاء التاريخية والمغالطات الخطيرة أن يعتقد أحد أن الاعتداء الفردي سينهي أزمة البطالة بل من البلاهة والسذاجة والجهل أن يقوم بعض الشباب بممارسات تحرج أولياء أمورهم أولا وتعرض الجمعيات السياسية التي تقوم برفع مطالبهم للمساءلة القانونية وتفقدهم ثقة القيادة الإصلاحية عدا تغيير نظرة المعتدلين إليهم وربما حتى بعض أعضاء جمعياتهم المنتمين إليها.
ومن الخطايا الكبرى أن نعتقد أن الإدارة الأميركية جادة في إعلانها عن الشراكة مع الشعوب، ويجب أخذ أقصى الاستفادة من هذه التصريحات، ولكن علينا أن ندرك جيدا أن خطة الولايات المتحدة الإصلاحية من خلال مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، «كلمة حق أريد بها باطل» على حد قول الإمام علي بن أبي طالب رضوان الله وسلامه عليه. إن الإدارة الأميركية المحافظة - التي تحارب الإسلام والعرب وتحاول فرض تغيير مناهجنا الدراسية على رغم أن بعض التغييرات ربما تأتي لصالح شعوبنا من حيث لا ندري - هي تلك الدولة الظالمة الداعمة لـ «إسرائيل» والتي لا تعير انتباها لكل تلك التجاوزات التي يقوم بها شارون وشلة المهووسين العسكريين في فلسطين المحتلة، وهذا شاهد إثبات على أنه لا خير في أي مشروع يصدر من قبل هذه الإدارة. لكن مهما حاولنا بحسب ظني أن نبعد علامات الاستفهام عن الخطاب الذي يستخدمه سواء أصحاب التوجهات الدينية في بعض الحسينيات أو في بعض الجوامع والمجالس من الطيف الآخر وكذلك مهما حاولنا إبعاد التهمة عن الخطاب التحريضي في عدد من الجمعيات السياسية فإننا نعجز عن الحصول على تفسير حقيقي يحول الخطاب التحريضي إلى خطاب تنويري. والخطاب التحريضي واضح في لهجة هؤلاء، وممارساتهم تكشف ذلك. فالخطاب التنويري من أهم آلياته وضوح الحدود ووضوح الرؤية ووضوح المنهج والحديث من خلال لغة المنطق وعدم اتهام الناس والقنوات الشرعية من دون مبرر، والتذكير دائما بأن هناك خطوطا حمرا لكل شيء... وأن اختراق تلك الخطوط لن يصب في صالح الوطن حتى لا يخرج البسطاء أو الشباب من ذوي الدم الحار لممارسة تلك الأطروحات من خلال قوة الذراع ومن خلال العنف فإنه عندما يحدث ذلك سيكون السياسي أول الملامين لأن الجمعيات السياسية وقراء المآتم ووعاظ الجوامع من مختلف الأطياف تقع عليهم المسئولية كاملة وخصوصا أن لهم ثقلا جماهيريا وهم قادرون على إرشاد هؤلاء الشباب، كما فعل الشيخ عيسى قاسم عندما أكد في خطبة الجمعة الماضية في جامع الإمام الصادق بالدراز «أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط»، وقال الشيخ حميد المبارك «إنه كما تدخل بعض الأعمال في المنكر، فإن أي عمل يؤدي إلى الإخلال بالنظام الاجتماعي العام والسلم الأهلي هو منكر بحد ذاته وبدرجة أشد».
وكلاهما قالا كلاما منطقيا ولو لم تكن هناك شروط وضوابط لأصبحت البلاد فوضى، ومن المنطقي كذلك أن أي عمل يقوض الوضع الاجتماعي ويخل بالنظام ويقوض الهدوء والاستقرار يدخل في دائرة المنكر دينيا من منطلق إسلامي «والفتنة أشد من القتل»، (البقرة: 191).
لكننا مهما قللنا من العتب على الجمعيات السياسية فإن المحاضرات والندوات الجماعية التي حدثت عن التجنيس والتمييز مع موافقتنا على ضرورة التراجع عن الاستمرار فيها بل ومحاولة إعادة النظر في عدد من ممارسات الحكومة في هذا المجال أمر ضروري لتهدأ الخواطر، علما بأن الإدارة العامة للجنسية والجوازات لم تحسم قضايا لأناس يستحقون قانونيا هويات بحرينية بحسب أوامر جلالة الملك إلا أن أحد النواب بالمجلس النيابي يحمل أكثر من 600 اسم لهؤلاء المستحقين منذ أكثر من سنة ما يجعله محرجا أمام أهالي من أولوه ثقتهم، وعلى رغم أنه اعترف بأنه حلت مشكلة قرابة 120 منهم تقريبا فإن الغالبية مازالت قضاياهم معلقة، بينما من كان جاء قبل أسابيع من خارج البلاد إذا بكل التسهيلات أمامه متوافرة، المهم أن الجمعيات السياسية يقع عليها جانب كبير من اللوم بالتجاوزات التي قام بها الشباب بسبب خطابها الذي تخطى حدود التنوير إلى حدود التحريض، وكذلك بعض رجال الدين من مختلف الأطياف.
أتمنى عند إلقاء خطبهم أو أطروحاتهم أن تكون واضحة المعالم ولا يتركوا المسائل لاجتهاد البسطاء والشباب المتحمس من دون إدراك الحدود والشروط وما يخل بالنظام ليفرقوا بين ما هو معروف وما هو منكر. وعلى المشايخ وقيادة الجمعيات السياسية أن تجعل من خطابها تنويريا، ينور الطريق الصحيح للشباب وحدود الاحتجاج وحدود الحماس وحدود الممارسات ضد ما يرونه يدخل ضمن تجاوزات النظام المؤثرة على حياة المواطن وكيف تتم معالجتها بالطرق السلمية البعيدة عن العنف، حتى لا نترك ذريعة لمن يتمنى أن يحرج القيادة الإصلاحية الجديدة التي تريد تصحيح اسلوب أديرت به البلاد وتسبب في كل هذا التخلف، في الوقت الذي كان هذا البلد أكثر دول المنطقة مرشحا لاستقطاب رؤوس الأموال وإقامة مختلف المشروعات الصناعية والتجارية فيها، لكن الفساد الإداري والبحث عن المصالح الخاصة كان وراء هذا الانحراف والبقاء في آخر قائمة البلدان الخليجية
العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ