لم يكن سفاح صبرا وشاتيلا ارييل شارون بحاجة إلى الظهور بعد وقت قصير على إشرافه على اغتيال الشيخ أحمد ياسين، ليشيد بما وصفه العمل الكبير الذي أنجزه جنوده، وذلك لسبب بسيط هو أن الشيخ ياسين لم يكن هدفا صعبا على الإسرائيليين فقد كان معروفا لديهم أن الشيخ المقعد على كرسي متحرك يقصد الجامع القريب من مسكنه لتأدية فريضة الصلاة. لكن غرض شارون من وراء الظهور التلفزيوني للدفاع عن جريمته ودماء الشيخ المقعد ما زالت تغطي المكان، هو الدفاع عن نفسه قبل صدور ردود الفعل. وعبر وزير خارجية بولندا عن الموقف حين قال: «إذا كان هدف شارون أن يقول للعالم إن «إسرائيل» قامت بخطوة لوقاية أمنها، من خلال إطلاق صاروخ على شيخ مقعد لا يحرك سوى رأسه فإننا نشك أن يكون هذا العمل ساهم فعلا في وقاية أمن «إسرائيل».
كان الشيخ ياسين يعرف أن الإسرائيليين يريدون قتله وربما زاد يقينه حين أعلن شارون عزمه سحب قوات الاحتلال من غزة وقبل أن يحقق هذه الخطوة، عزم على توجيه ضربة قوية لحركة (حماس) كي لا تستغل الفرصة لتعلن على الملأ أنها انتصرت على «إسرائيل» وأن ضرباتها وراء قرار الانسحاب. لكن الطريقة التي نفذت للقضاء على الزعيم الروحي لحركة «حماس» ليست غريبة على شارون وعلى سلوكه ونظرته العنصرية للفلسطينيين. وإذا كان هناك رجل يستحق أن يحاكم أمام محكمة جرائم الحرب فهو شارون ليس فقط بسبب جريمة قتل الشيخ - صدر الدليل من راديو «إسرائيل» حين ذكر أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أشرف بنفسه على تصفيته - فشارون كان رفع في سبتمبر/ أيلول الماضي الشعار القائل: إما نحن وإما هم وذلك بعد فشل المحاولة الأولى للقضاء على الشيخ ياسين.
منذ نشأته وشارون الذي تنحدر أسرته من بولندا، لم يفرق بين ضحية وأخرى. ولم يفرق أبدا بين «حماس» وبين «كتائب الأقصى» وبين السلطة الفلسطينية وبين الانتفاضة الثانية التي كان هو السبب في اندلاعها. فقد كان شارون هو الذي قام في نهاية سبتمبر/ايلول 2000 بزيارته الاستفزازية الشهيرة إلى حرم المسجد الأقصى وكان آنذاك زعيما للمعارضة اليمينية. ولخدمة حملته الانتخابية وكسب أصوات المتشددين في «إسرائيل» زعم أنه رغب في زيارة المكان المقدس الذي يطالب اليهود بالسيطرة عليه لنبش معبد يقع تحت حرم المسجد الأقصى. وكان من الطبيعي أن يشعر الفلسطينيون بهذه الخطوة الشارونية الاستفزازية وقاموا برمي شارون الذي جاء مدججا بمئات أفراد الشرطة بالأحذية والحجارة وردت قوى الأمن برصاصات مطاطية وقنابل مسيلة للدموع وترك شارون المكان وقد حوله إلى ساحة معركة وصرح بأنه جاء حاملا رسالة سلام.
لم يتغير الجنرال السابق الذي يستغل كل فرصة لتحقير الفلسطينيين والكشف عن الحقد الذي يغلي داخل صدره وهذا الرجل صاحب التاريخ الدامي اختاره الإسرائيليون رئيسا للوزراء مرتين متتاليتين. منذ أن أمر شارون (76 عاما)، وحدة القتل الخاصة التابعة للجيش الإسرائيلي (الفرقة 101) في الخمسينات للقيام بأعمال قتل ضد الفلسطينيين انتقاما لهجمات المقاومة العربية وكان الهدف النفسي إثارة الرعب في نفوس السكان لإجبارهم على الرحيل عن مناطقهم وكان شارون يأمر جنود الفرقة أن يقتلوا من دون هوادة.
في مذكراته كتب شارون أنه كان يأمر بتوجيه ضربات قوية للعرب كي لا يخطر على بالهم أنهم يستطيعون تحقيق الغلبة على «إسرائيل». ولقي 69 مواطنا مصرعهم حين هاجمت الفرقة 101 بقيادة الميجور شارون قرية فلسطينية بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1953 وكان الأمر الذي صدر عن شارون: اقتلوا أكبر عدد ممكن من الناس وافنوا ممتلكاتهم. بعد سنوات قال: إنه يأسف لوقوع المجزرة ورفض تحميل نفسه مسئولية قتل الأبرياء.
ولعبت جرائم الحرب التي ارتكبها شارون ضد الفلسطينيين والعرب دورا بارزا في صعوده العسكري ثم في صعوده السياسي. وقاد في حرب يونيو/ حزيران 1967 كتيبة دبابات في مواجهة الجيش المصري في شبه جزيرة سيناء واحتل منطقة أبوعجيلة وهذا ما جعل الإسرائيليين يسمونه «ملك القدس». وحين وقعت حرب أكتوبر 1973 عاد شارون إلى الجيش بعد استقالته وقاد كتيبة دبابات.
تحت وقع النجاح العسكري الذي ساهم به شارون بدأ يفكر في العمل السياسي والاستفادة من شعبيته وشارك في تأسيس كتلة الليكود في سبتمبر 1973. وبعد ثلاثة أشهر حصل على مقعد في الكنيست لكن بعد عام واحد تخلى عن هذا المقعد وانصرف للعيش مع أسرته في مزرعته الخاصة في صحراء النقب. في العام 1977 عاد لممارسة العمل السياسي على رأس حركة يمينية متشددة وانضم لاحقا لكتلة الليكود وحصل على منصب وزير الزراعة في حكومة رئيس الوزراء مناحيم بيغن. والأخير صاحب ماضٍ إرهابي إذ كان حتى وفاته على قائمة المطلوبين للقضاء البريطاني لأنه شارك في تفجير فندق الملك داوود في القدس الذي كان مقرا للجيش البريطاني. وفي العام 1981 عينه بيغن وزيرا للدفاع وفي هذا الوقت شجع شارون حركة الاستيطان بصورة لم يفعلها مسئول إسرائيلي آخر. لم ينتظر شارون طويلا حتى يمارس مهنة القتل. وفي يونيو 1982 أمر «صقر الصقور» على حد وصف صحيفة «لوموند» الفرنسية بزحف الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي اللبنانية لإبعاد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية. وأمام أعين الجنود الإسرائيليين اقتحم الميليشيات اللبنانية صبرا وشاتيلا في جنوب مدينة بيروت وأجهز بأعصاب باردة على أكثر من 800 من اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين وهي الجريمة التي ستظل مرتبطة باسم ارييل شارون. وقد توصلت لجنة تحقيق إسرائيلية إلى تقديم الدليل على أن المجزرة البشعة لم تكن لتقع لولا موافقة شارون وحملته مسئولية المشاركة بوقوعها الأمر الذي حتم عليه التخلي عن منصب وزير الدفاع لكنه حافظ على سمعته كبلدوزر يميني متعصب كرشه ممتلئ بالحقد الأعمى على الفلسطينيين والعرب.
ظل شارون مخلصا لسمعته السيئة حتى بعد انتخابه رئيسا للوزراء للمرة الأولى في فبراير/ شباط 2001 وسرعان ما راح يرمي العراقيل في طريق عملية السلام وحلم الفلسطينيين بإنشاء دولة مستقلة وأعلن رفضه تقسيم القدس إلى عاصمتين الجزء الشرقي منها للفلسطينيين كما رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين. وبدأ بعد هجوم 11 سبتمبر على الولايات المتحدة يكافح ما يصفه بالإرهاب وكما فعل بوش في أفغانستان راح شارون يتبع سياسة الاغتيالات الوقائية وفي درج مكتبه قائمة بأسماء الأشخاص المستهدفين وفي مقدمتهم ياسر عرفات والسيد حسن نصرالله كذلك الشيخ أحمد ياسين ثم أمر ببناء «جدار برلين» ليحمي المستوطنين ولكن الهدف الأساسي وراء بناء الجدار العنصري هو الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية في العام 2005 وفقا لما نصت عليه «خريطة الطريق».
يعتقد وزير العدل الإسرائيلي السابق غوسي بيلين (أحد مبتدعي مبادرة جنيف) أن الجريمة التي ارتكبها شارون خطأ فادح ستدفع «إسرائيل» ثمنه غاليا.
إذا صحت توقعات بيلين الذي انشق عن حزب العمل وأسس حزبا مستقلا، يكون شارون حقق عكس الهدف الذي سعى إليه، على حد قوله وأقوال جوقة اليمينيين المتعصبين في «إسرائيل» اعتبروا أن القضاء على الشيخ ياسين سيردع «حماس» لكن العكس هو الصحيح.
أصبح الشيخ ياسين منذ الاثنين الموافق 22 مارس/آذار 2004 أكثر من شهيد ومؤسس لحركة «حماس». سيرفعه الكثير من الفلسطينيين والعرب إلى مصاف أعلى ويخلدونه ويؤمون ضريحه المتواضع في المقبرة المركزية في مدينة غزة ويستلهمون من أقواله وحياته النضالية لمواصلة الكفاح ضد «إسرائيل» وسيزيد نفوذ «حماس» التي تجد نفسها بعد اغتيال مؤسسها وزعيمها الروحي أمام تحدٍ شخصي طرفه الآخر شارون. وقبلت الحركة التحدي وقالت إن الأبواب فتحت على وسعها، وهكذا يكون شارون مهد مرة جديدة لحمام دم في المنطقة. اعذروه، انه لا يعرف سوى لغة القتل
العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ