العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ

هيكل... لماذا توقفت عن الكتابة؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل ستة أشهر أعلن الكاتب الصحافي المشهور محمد حسنين هيكل توقفه عن الكتابة. هذا القرار مر من دون انتباه الا من بعض المتابعين والملاحظين والمريدين. القرار حدث بحد ذاته اذ كيف يمكن ان يتوقف كاتب عن الكتابة بعد أكثر من نصف قرن من الكتابة. وهل يستطيع ان يتوقف كاتب عن الكتابة وكيف يمكن ان يصل الى مثل هذا القرار؟

ماذا يفعل الكاتب اذا توقف عن الكتابة؟ ومن يعطي الجواب الكافي عن السؤال ربما يساعد الكثير من الكتاب على التوقف عن الكتابة.

الجواب يملكه محمد حسنين هيكل. وحتى يقدم الجواب لابد له ان يكتب مجددا بعد اضراب مؤقت دام قرابة ستة أشهر. انها لا شك تجربة جديدة وعلى هيكل ان يعود للكتابة ليعطي فكرة عن حال كاتب قرر التوقف فجأة عن الكتابة. فهيكل الآن بات في وضع يسمح له بتقديم فكرة موجزة عن معاناته. كيف قضى هذا الوقت، وماذا فعل، وكيف كان يتصرف؟ هل اثر القرار على سلوكه اليومي وعلاقاته الشخصية ووسائل تفكيره وطرق تعبيراته؟ ماذا فعل هيكل طوال هذه المدة وكيف مرت عليه الأيام والليالي والساعات من دون كتابة؟

عشرات الأسئلة يمكن طرحها والاجابات كلها عند هيكل. فهو الشخص الوحيد على حد علمنا كان عنده الشجاعة ليقول: كفى كتابة.

هيكل هو الشخص الوحيد، ربما، عنده القدرة على كشف الحقائق و«بصراحة» كما كان يكتب سابقا. وبصراحة يجب على هيكل ان يبوح السر. لماذا أصلا اتخذ هذا القرار؟ وكيف توصل إلى الاعلان بوضوح انه لن يكتب بعد الآن؟ لماذا؟

سؤال «لماذا» يفتح الأبواب على أسئلة كثيرة، من نوع: هل اكتشف ان ما كتبه ليس مهما؟ هل اكتشف ان ما كتبه طوال نصف قرن كان يمكن اختزاله أو اختصاره؟ هل اكتشف ان ما كتبه ليس هو الكتاب الذي يريده أو فكر به؟ هل اكتشف ان الكتابة باتت تنتمي الى عصر قديم وان العالم دخل الآن عصر ما بعد الكتابة؟ هل يعتبر ان ما كتبه لم يغير في المعادلات ولم يصحح الاخطاء وبالتالي اذا كتب أو لم يكتب فالأمر سيان لا فائدة ترجى منه؟

مسألة التوقف عن الكتابة يجب التوقف عندها وتقليب معناها على مختلف الزوايا بدءا من سؤال: لماذا يكتب الإنسان؟ أو لماذا اصلا فكر في الكتابة؟ وما فائدة الكتابة؟ للقراءة، للتسلية، لقول اشياء غير معروفة أو للتعريف باشياء مجهولة.

وما معنى ان يكتب الإنسان وما هي الدوافع التي تصنع عنده هذه الرغبة: الكتابة.

على هيكل ان يعود للكتابة ولو مرة واحدة ويجيب عن هذه الأسئلة وتحديدا: لماذا توقف؟ وكيف مرت عليه الأيام وقت الاضراب عن الكتابة؟

أجوبة هيكل مفيدة وربما تكشف عن الكثير من الجوانب المظلمة في حياة الكاتب ومعاناته وربما ايضا تلقي الضوء على أسرار الكثير من الفلاسفة والعلماء والفقهاء والأئمة في تاريخ الاسلام الذين امتنعوا عن الكتابة (التدوين) أو مزقوا ما كتبوه أو طلبوا حرق ما كتبوه في وصيتهم. بعض العلماء والفقهاء طلبوا دفنهم مع كتبهم حتى لا تتناقلها الاجيال من بعد رحيلهم. وهناك الكثير من علماء الأمة فقدت اثرهم ولم يبق لهم ما يدل عليهم سوى ما نقل عنهم من كلام قالوه ورفضوا تدوينه.

سؤال الكتابة لايزال من دون جواب. فهل الكاتب يكتب من أجل الرزق (العيش) أو من أجل الشهرة أو من أجل كشف الحقائق أو من أجل الكتابة؟

سؤال الكتابة (لماذا نكتب) لايزال الخلاف عليه قائما. الجاحظ ظل يكتب على رغم انقلاب الزمان عليه وتقلبه. فالجاحظ المشهور بالبشاعة والبخل كان يجوع من أجل تحصيل الكتاب للقراءة وكسب الأوراق والأقلام لتسجيل ما يقرأ. أصيب الجاحظ بأمراض كثيرة وصفها في كتاباته ومع ذلك لم يتوقف عن الكتابة. وعاش الجاحظ قرابة مئة سنة وظل يكتب حتى سقطت عليه مكتبته وقتل تحت كتبه. الجاحظ هذا الذي امتهن الكتابة واحترف صنعتها ظل يكتب حتى حين اصيب بداء الشلل النصفي فأصبح نصفه من دون احساس ونصفه الآخر اصيب بمرض شديد الحساسية... ومع ذلك واصل الكتابة حتى قتله الكتاب. هذا الجاحظ الظريف والمسكين والمتقلب والمأزوم اتهمه المسعودي في تاريخه (مروج الذهب) بالسرقة واطلق عليه وصف «حاطب ليل».

ابن باجة في رسائله تحدث عن «غربة المثقف» ومشكلته مع مدينته. وصف ابن باجة أزمة المثقف وصلاته الاجتماعية وتوتر علاقاته مع الناس والسلطان. وجد ابن باجة في الكتابة مشكلة. فالكاتب لا يستطيع ان يقول الصدق فيضطر الى تكييف نفسه مع محيطه والا طردته الجماعة وعزلته.

ابن رشد (الحفيد) درس القضاء على جده وتحول الى قاضي قرطبة (الاندلس) وتعلم الطب فكان من أشهر الجراحين والاطباء. ويقال ان فتواه لا تقل قسوة عن مهنته (طبيب جراح). ابن رشد تورط في الكتابة حين كلفه الأمير المنصور بالاشراف على ترجمة الفلسفة الاغريقية (اليونانية). وافق ابن رشد على الوظيفة وهو لا يعرف اليونانية فلجأ إلى الترجمات العربية في ايامه أو تلك التي تمت باشراف خالد حفيد معاوية بن أبي سفيان أو في عهد المأمون في الزمن العباسي. ونجح ابن رشد في نقل اكثر من 70 كتابا نسبت إلى فلاسفة اليونان وهو لا يعرف من اليونانية جملة مفيدة.

ابن رشد هذا سخر منه ابن خلدون في مقدمته وقال عنه انه اقتفى اثر اليونان كالنعل على النعل. فابن رشد لم يميز مقاله الفلسفي عن الاغريق كما فعل قبله الفارابي وابن سينا، وبرأي صاحب المقدمة ان الرازي والفارابي وابن سينا افضل من ابن رشد لانهم حاولوا الاجتهاد في الفلسفة وتأسيس قواعد مستقلة للتفكير الفلسفي عن المدارس اليونانية وهذا ما فشل فيه ابن رشد.

ابن خلدون أيضا مر في ازمة كتابة. فابن خلدون رجل سياسي واحترف السياسة منذ صغره وكان طموحه ان يبلغ منصب الحجابة (حجاب) عند السلطان أو الوزير الأول. فشل ابن خلدون في طموحه السياسي وتعرض للمطاردة والملاحقة والسجن والتعذيب وقتل الكثير من أصحابه وخصوصا صديقه الاديب والمفكر والمؤرخ (والوزير السياسي) ابن الخطيب.

حزن ابن خلدون كثيرا على صديقه وخاف... فقرر اعتزال السياسة والاعتكاف في قلعة ينزوي فيها للتفكير والكتابة. قرار اعتزال السياسة كان أخطر قرار في حياة ابن خلدون والقرار الافضل في حياته السياسية. وبسبب ذاك الموقف التاريخي قيض للعالم الاسلامي (والعالم أجمع) ان يتعرف على تاريخه المميز ومقدمته الشهيرة التي تعتبر تحفة في فن المعرفة والتفكير في كل الازمان والعصور. فالكتابة قد تكون مصادفة وأحيانا تأتي حين لا يريدها الانسان وأحيانا تذهب حين يريدها الكاتب. ترى كيف كان وضعنا لو كسب ابن خلدون الوزارة وخسرنا «المقدمة».

ابن النديم مثلا ورث عن والده مكتبة في بغداد. وفكر بوضع «فهرست» يشير إلى أسماء الكتب والكتّاب وموجز عن موضوعات الكتب التي تباع في مكتبات الوراقين في بغداد. وكانت النتيجة صدور أهم موسوعة فكرية للكتب في عصره. ولايزال «فهرست» ابن النديم (الوراق) أحد أهم المراجع في زمننا عن الكتابة إلى العهد العباسي. وتحول عمله الى تقليد اسلامي حفظ لنا تراثنا وأسماء كتابنا إلى أيامنا.

الكتابة قرار، وأحيانا تكون مصادفة، الا ان التوقف عن الكتابة بعد نصف قرن من الكتابة فهي من اصعب القرارات. وهذا القرار اتخذه أهم كاتب صحافي عربي في عصرنا.

مطلوب من هيكل التوقف عن القرار مرة واحدة فقط. وليعتبر قراره مجرد توقف مؤقت أو مجرد اضراب لمدة نصف سنة. ومطلوب منه العودة الى الكتابة ليجيب عن أسئلة مخيفة: لماذا قرر الكتابة؟ ولماذا قرر التوقف؟ وكيف قضى إيامه من دون كتابة.

اذا نجح هيكل في الاجابة عن هذه الأسئلة ربما تكون كتاباته الأخيرة هي الافضل في حياته.

ربما... وربما مجرد احتمال أو مصادفة أو ضربة حظ. ألم تعلن الاكاديمية السويدية عن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للاداب بعد توقفه عن الكتابة، من دون قرار، عشر سنوات

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 567 - الخميس 25 مارس 2004م الموافق 03 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً