حرب العراق كانت خطأ فادحا، ونتيجة انفراد الولايات المتحدة باتخاذ قرار تغيير النظام في العراق، في الوقت الذي لم تجتهد فيه إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، بصورة مخلصة، لهدف حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، انتهى الغرب في مواجهة نزاعين ساخنين الأول في العراق والثاني بين الفلسطينيين و«إسرائيل». هذا ما صرح به وزير خارجية فرنسا دومينيك دو فيلبان الذي نجح في وقت قصير أن يصبح أبرز وأهم وزير خارجية أوروبي ويذكر البعض بوزير الخارجية الفرنسي السابق ميشيل جوبير، نظرا لجرأته في توجيه انتقادات إلى الولايات المتحدة الأميركية. منذ أن حذر دو فيلبان الأميركيين داخل مجلس الأمن الدولي من التسبب في إثارة فوضى في منطقة الشرق الأوسط في حال نفذوا حملتهم العسكرية، أصبح دو فيلبان الأشد كراهية عند السياسيين الأميركيين بين السياسيين الأوروبيين.
الصراحة مهمة ولكن في السياسة تتسبب في ظهور مؤيدين وخصوم. ما أراد دوفيلبان إقناع الأميركيين به هو أنه طالما نزاع «الشرق الأوسط» الأساسي، لم يحل بعد فإن أي نزاع آخر، تكون نتيجته صب الزيت على النار. ويؤيده بذلك المستشار الألماني غيرهارد شرودر الذي صرح بعد تفجيرات مدريد أنه ينبغي القضاء على جذور الإرهاب وعدم التفكير دائما باستخدام القوة العسكرية والسياسة في مواجهة مسبباته. هذه الجذور متنوعة. هناك الفقر وعدم توفر فرص التنمية وانعدام الديمقراطية في عدد من بلدان العالم الثالث وهناك أيضا جذور ظهرت نتيجة اغتصاب دولة فلسطين وتشرد شعبها ومواصلة اضطهاد هذا الشعب تحت احتلال عمره قرابة أربعة عقود من الزمن.
وفي العام 1993 كان العالم على وشك أن يشهد حل هذا النزاع وتم في حديقة البيت الأبيض التوقيع على اتفاق أوسلو التي وصفها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بأنها سلام الشجعان، لكن الذراع الطويلة للمستوطنين اليهود مهدت للقضاء على هذا الاتفاق واغتال يهودي متطرف رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحاق رابين الأمر الذي مهد الطريق كي يستعيد حزب الليكود المتطرف مقاليد السلطة. في البداية جمد بنيامين نتنياهو اتفاق أوسلو ثم خلفه في منصبه والد المستوطنين، آرييل شارون وأطلق رصاصة قاتلة على الاتفاق الذي لا أحد اليوم يذكره بكلمة واحدة. مصير اتفاق أوسلو يهدد خطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية المؤلفة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
وكان الرئيس الفرنسي جاك شيراك واضعا في تصوره حين قال الثلثاء الماضي: ينبغي عدم التزام الصمت ونحن نرى خطة الطريق معرضة للنسيان. لا يختلف المراقبون والمعلقون في تحليلاتهم أن حرب العراق التي سببت انقساما واسعا داخل المعسكر الغربي سبقتها تحذيرات من أنها قد تسهم في تعزيز نفوذ الأصوليين وتغذي موجة العداء ضد الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، الحليف المطيع لها في أوروبا. بعد انهيار نظام الطالبان في أفغانستان خسرت منظمة (القاعدة) مركزا مهما لها كانت تنشط على أرضه. إن تعرض قوات الاحتلال في العراق لهجمات يجري تحميل مسئوليتها لـ (القاعدة) و«أنصار الإسلام» و(التوحيد) من نتاج غزو العراق وتغيير نظامه واحتلاله. في عهد النظام السابق في العراق لم يكن بوسع الأصوليين التسلل لأراضي العراق وممارسة أي نشاط.
وكانت المخابرات الألمانية أول من دحض معلومات الأميركيين بأن هناك تعاون بين (القاعدة) والسلطة العراقية السابقة الأمر الذي لم تظهر أدلة تثبت صحة مزاعم واشنطن مثلما لم تظهر أدلة حتى اليوم بشأن أسلحة الدمار الشامل المزعومة والتي كانت السبب الرئيسي للحملة العسكرية الأميركية البريطانية ضد العراق. بعد حرب العراق نشأ نزاع خطير جديد في المنطقة العربية في الوقت نفسه فإن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مستمرا فحسب بل يجرى تصعيده لعدم اهتمام رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون بعقد سلام مع الفلسطينيين وعلى الأقل قبولهم شركاء فهذا الجنرال السابق الذي ارتبط اسمه للأبد بمجازر صبرا وشاتيلا لا يساعده حقده الكبير على الفلسطينيين والعرب أن يجلس على طاولة المفاوضات كما أنه لا يملك أية تصورات لسلام مع العرب وحين يتحدث عن مفاوضات فإنه يفكر دائما بالتفاوض مع نفسه.
الخطر الكبير الذي يهدد خطة الطريق هو جدار شارون الذي أقامته «إسرائيل» بتمويل غربي لتخلق حقائق جديدة على الأرض وتحمي مستوطناتها غير المشروعة. وكل ما فعله المجتمع الدولي كان تنظيم جولة قصيرة داخل محكمة العدل الدولية في لاهاي بإيعاز من الأمم المتحدة ولم ترفض «إسرائيل» هذه الخطوة وتجاهلتها فحسب بل المحزن في الأمر أن قضاة محكمة العدل الدولية أعلنوا منذ البداية أنه ليس لديهم صلاحية لانتقاد جهة معينة.
وكان من الأجدى لو أن المجتمع الدولي وقف حازما لإجبار «إسرائيل» على هدم الجدار تحت طائلة تعرضها لعقوبات دولية. لكن المجتمع الدولي يفكر بفرض عقوبات فقط على دول عربية وإسلامية بغض النظر عن كوبا والتاريخ يملك أمثلة كثيرة على صحة هذا الرأي.
لقطع الطريق على الأصوليين الذين يستغلون احتلال العراق والعنف الدائر على أرض فلسطين ينبغي وضع حلول سياسية عاجلة. بينما تدعو غالبية دول العالم إلى ترك العراق في عهدة الأمم المتحدة لتعمل في تسيير أموره وإنهاء احتلال أراضيه واستعادته سيادته فإن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يواجه عقبات كبيرة أبرزها تمسك «إسرائيل» بالمستوطنات التي أقر العالم أنها ليست مشروعة.
يقف في هذا النزاع خصمان ليسا متكافئين فحين توصف المقاومة الفلسطينية بأنها متواضعة القوة وتعتمد في ضرباتها على العمليات الاستشهادية فإن الطرف الإسرائيلي الذي يمارس العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين ومناطقهم هو الجيش النظامي الإسرائيلي وبأمر من رئيس الوزراء شارون. يوجه الإسرائيليون ومعهم حكومات غربية اللوم إلى عرفات والسلطة الفلسطينية كلما وقعت عملية استشهادية في مناطق الإسرائيليين لكن هؤلاء غضوا النظر عن نقطة مهمة: كيف يمكن لعرفات وحكومته أن يعملا في وقف نشاطات الفصائل الفلسطينية بعد أن دمرت «إسرائيل» مؤسسات السلطة الفلسطينية وفرضت على عرفات طوقها العسكري المدجج وتمعن في اغتيال الفلسطينيين وتتبع التعريف الجديد للإعدام: القتل الوقائي.
إن استمرار الاحتلال وقيام الجدار الفاصل وعمليات إعدام كوادر فلسطينية وممارسة النسف العشوائي في المناطق الفلسطينية المكتظة بالسكان إضافة إلى عدم وجود تصورات سياسية لمستقبل أفضل، يجعل الكثير من الفلسطينيين يفتقدون القدرة على التحكم بمشاعرهم والدليل على ذلك أن الذين يدعون على العمليات الاستشهادية لا يجدون صعوبة في الحصول على شباب وشابات في عمر الزهور لتنفيذ هذه العمليات التي تقع في الغالب ردا على هجمات الجيش النظامي الإسرائيلي. حتى اليوم لم تخل «إسرائيل» مستوطنة واحدة وتشير بيانات المنظمة الإسرائيلية (السلام الآن) إلى أن عدد المستوطنات زاد بصورة ملفتة للنظر منذ تسلم شارون منصب رئيس الوزراء.
كما تشرف وزارة الإسكان على بناء وتمويل هذه المستوطنات فيما يتحمل الجيش الإسرائيلي مهمة سرقة الأراضي التي تقام عليها وتوفير الحماية لها. وليس هذا جديدا في إسرائيل إذ تشير بيانات الفرع الأميركي لمنظمة (السلام الآن) إلى أن بناء المستوطنات استمر حتى في العام 1993 بعد التوقيع على اتفاق أوسلو بتاريخ 13 سبتمبر/ أيلول. وتقول هذه البيانات إن عدد المستوطنات في الفترة بين تاريخ التوقيع حتى العام 2000 زاد بنسبة 52 في المئة وزاد عدد المستوطنين في هذه الفترة إلى 20 ألف مستوطن وخلال عهد رئيس الوزراء السابق إيهود باراك زاد عدد المستوطنين أيضا على رغم أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية كانت قائمة تحت رعاية إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.
وتعتبر سياسة الاستيطان التي تعمل بها «إسرائيل» باستمرار بغض النظر عمن يدير زمام الحكم فيها، السبب الرئيسي في عدم ثقة الفلسطينيين بوجود نوايا عند الإسرائيليين لتحقيق السلام معهم. ويجد الفلسطينيون أيضا أن الإسرائيليين استغلوا عملية السلام لإسكات الأصوات الفلسطينية الناقدة لبناء المستوطنات لكن من الصعب على والد المستوطنين، (شارون)، أن يغطي على دعمه المكشوف للمستوطنين.
بعض المستوطنين قبل دعوة الحكومة الإسرائيلية للعيش في مناطق الحزام الأمني لأسباب مادية فأسعار الوحدات السكنية بخسة عدا أن هناك تسهيلات مالية كبيرة توفرها الدولة وبين المستوطنين أيضا مجموعات من المهاجرين الذين قدموا من الاتحاد السوفياتي السابق وهناك فئة خطيرة من المستوطنين، المتشددون الذين قدموا لدواعي دينية أو سياسية للمساهمة في قيام «إسرائيل الكبرى» وطرد العرب وهم يحملون السلاح ويحولون مستوطناتهم إلى ثكنات محصنة تحت حراسة الجيش الإسرائيلي. طالما الظلم موجود طالما يستغله البعض في صب الزيت على النار والعنف والإرهاب لا يأتيان من فراغ بل هناك من يسهم في تفشيهما ومن العبث غض النظر عن هذه الحقيقة
العدد 565 - الثلثاء 23 مارس 2004م الموافق 01 صفر 1425هـ