ربما تتميز الاقلية المسيحية في العراق بخصائص قد لا تجد مثيلا لها في أماكن أخرى من العالم، فقد ساهمت هذه الاقلية وعبر مراحل التاريخ العراقي في صوغ الإطار العام الذي تتكون منه اللوحة الاجتماعية الموزائيكية بمختلف معطياتها وألوانها الجذابة، وكانت عبارة عن عامل ايجابي لتحقيق ذلك الانسجام المتماسك بين جميع شرائح المجتمع العراقي.
وشارك المسيحيون العراقيون في معظم الانتفاضات والثورات الوطنية، والكثير منهم كان على رأس احزاب سياسية فعالة لها تأثيرها البالغ في اوساط العراقيين إلى وقتنا الراهن، كما ساهموا في تطوير المجالات العلمية والثقافية والفنية، فمنهم من بدأ مع الشركات البريطانية والأميركية باستخراج النفط منذ البداية، وبرع فيما بعد في هذا التخصص، ومنهم من اهتم بالعمل الاكاديمي والعلمي، وأصبح من خيرة الاساتذة الجامعيين أو المدرسين في بدايات عصر التعليم في العراق، ومنهم من طور اللغة العربية وهذبها وثبت اقدامها على قواعد صحيحة، ومعظم مسيحيي العراق يعتزون بانتمائهم القومي العربي، ومنهم من برع في اللغة الانجليزية فترجم اعظم الكتب إلى العربية، ومنهم من أسس أولى الصحف التي صدرت في العراق. ولكن هذه الشريحة من المجتمع العراقي تعرضت خلال مراحل الصراعات السياسية العنيفة إلى اضطهاد مركّز من قبل معظم الحكومات انطلاقا من كونها أكثر انحيازا إلى الحركات الراديكالية، وتعرضت في بعض الاحيان إلى مذابح جماعية وملاحقات متواصلة. كل ذلك دفع الآلاف من الشباب والعوائل المنتشرة في بغداد والموصل وكردستان وحتى الجنوب في البصرة والنا صرية إلى الهجرة للولايات المتحدة وكندا واستراليا والبلدان الاسكندنافية. وفي الخمسينات كان عدد المسيحيين في العراق يزيد على المليون ونصف المليون، وبعد هجرة الكثيرين قل عددهم، وبمرور الزمن ازداد عددهم داخل العراق وخارجه. وتشير الاحصاءات إلى أن عددهم في العراق يبلغ حاليا نحو مليون نسمة، بينما يبلغ عددهم في الولايات المتحدة وحدها حوالي نصف المليون، وفي البلدان الأخرى يصل عددهم إلى نصف مليون أيضا.
وفي العراق يتوزع المسيحيون على ثلاثة مدن رئيسية هي الموصل وبغداد والبصرة، وينتشرون بأعداد أقل في مناطق أخرى في شمال العراق وجنوبه. وهناك في الموصل وبغداد مناطق خاصة بهم، توجد فيها أيضا كنائسهم، وأشهر كنيسة في بغداد هي كنيسة ماري يوسف اضافة إلى كنائس أخرى.
ويتشدد المسيحيون «الكلدان» و«الآشوريون» و«السريان» في انتمائهم إلى بلاد ما بين النهرين واراضي سورية، ويعتبرون أنفسهم أهل العراق الاصليين وهم ورثة الحضارة الآشورية التي سيطرت على دول الشرق القديم، والكلدان أيضا يعتبرون أنفسهم أبناء الحضارة العراقية القديمة التي ينتمي إليها أبو الانبياء سيدنا إبراهيم الخليل (ع)، اما السريان فإنهم يؤكدون أنهم طلائع العرب الذين جاءوا إلى العراق القديم ونشأوا فيه.
آلاف العراقيين المسيحيين الذين هاجروا إلى الخارج مازالوا أكثر تعلقا بالأرض والتاريخ والتقاليد، وهم أنشأوا في معظم الولايات الأميركية مجتمعات عراقية صغيرة، فاصدروا صحفا عربية وفتحوا مطاعم تقدم المأكولات العراقية والعربية، وأسسوا مدارس عربية خاصة بهم وبالجاليات العربية، وفي بيوتهم لا يتمتعون الا بمشاهدة الفضائيات العربية ويستمعون إلى الاغاني والموسيقى العراقية والعربية، وفي نواديهم يدعون في غالبية برامجهم الثقافية شخصيات فكرية وثقافية وسياسية عراقية وعربية للحديث عن موضوعات تهم ثقافتهم وتاريخهم وتقاليدهم العراقية.
ويوجد بطبيعة الحال مسيحيون اكراد، ولكنهم في غاية الانفتاح على اشقائهم العرب، ولا يوجد فيهم ميل إلى التعصب القومي الضيق.
ربما تتحقق العودة الجماعية إلى بلادهم الاصيلة (بلاد ما بين النهرين)، كما يحبون تسميتها في أدبياتهم وخطاباتهم وثقافتهم، أكثر مما يسمونها بالعراق، وهذا يدل على تعلقهم بالتاريخ القديم الذي يعتبرونه تاريخهم الأول، وهذه العودة مرتبطة بتطورات الوضع العراقي عموما، وقد يشمل ذلك أيضا معظم العراقيين الموجودين في الخارج، الذين يتحرقون شوقا إلى هذه العودة
العدد 565 - الثلثاء 23 مارس 2004م الموافق 01 صفر 1425هـ