سيكون من الضروري مناقشة قضية الاعتراف من خلال حالة التعددية الثقافية في البحرين، وأنا أقترح حالة البحرين لا لأنها قريبة مني فحسب، بل لأنها تمثل نموذجا قلقا ومشوّشا من التعددية الثقافية ومن معضلة الاعتراف. ويمكن اكتشاف هذا التشوّش على مستويات كثيرة. فالبحرين بلد يتكون من مجتمع صغير بلغ عدد سكانه 1,050,000 نسمة وفق آخر تصريح رسمي في العام 2008. ويشكّل المسلمون (شيعة وسنة) نحو 99 في المئة من مجموع مواطنيه، والبقية تتألف من أقليات يهودية ومسيحية وهندوسية وبهائية، بالإضافة إلى أقليات بوذية وسيخية معظمهم من الأجانب المقيمين. ويذكر الموقع الرسمي للحكومة الإلكترونية أن المجموعات العرقية في البحرين تتوزّع على النحو الآتي: البحرينيون العرب (63 في المئة)، آسيويون (19 في المئة)، عرب آخرون (10 في المئة)، إيرانيون (8 في المئة).
وتتمتع المجموعات الدينية بحرية دينية مقبولة تسمح لها ببناء دور العبادة وإقامة شعائرها الدينية الخاصة. وتذكر بعض الإحصاءات الرسمية أن في البحرين (589) مأتما، و(863) مسجدا مسجلا لدى إدارة الأوقاف الجعفرية، و(360) مسجدا مسجّلا لدى إدارة الأوقاف السنية، بالإضافة إلى نحو (500) دار للعبادة غير مرخّصة رسميا. وهناك نحو 12 إلى 13 كنيسة مسجلة لدى وزارة التنمية الاجتماعية وموزعة بين الطوائف الإنجيلية والكاثوليكية والأرثوذكسية. هناك، كذلك، عدد من المعابد لكل من اليهود والهندوس والسيخ والبوذيين والبهائيين. فهل يفهم من هذا أن البحرين قد أوفت بالتزامها تجاه (المادة - 27) من «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، والتي تنصّ على أنه «لا يجوز، في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائرهم أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم»؟ سنؤجّل الإجابة عن هذا السؤال حتى ننتهي من رسم الصورة العامة لحالة التعددية الثقافية في البلاد، وطريقة التعامل الرسمي معها.
وقبل هذا، ينبغي علينا أن نشير إلى أن التنوع الديني والعرقي قد حظي باعترافات وتأكيدات رسمية كثيرة، آخرها جاء على لسان ولي العهد ورئيس مجلس التنمية الاقتصادية سمو الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في مقابلة مع شبكة (سي إن إن) الأخبارية بتاريخ 29 أغسطس/ آب 2008. وجاء تأكيد سمو ولي العهد في معرض الإجابة عن سؤال حول مدى تأثير المكاسب السياسية التي حققها الشيعة في العراق على استجابة البحرين لمطالب الشيعة البحرينيين، قال ولي العهد: «علينا أن نفهم بأن البحرين مجتمع متعدد الثقافات والأعراق، لذلك يجب أن يشمل الاحترام جميع الشرائح، سواء السنة أو الشيعة أو المسيحيين واليهود والبوذيين».
هذا تأكيد صريح على أن البحرين مجتمع متعدد الثقافات، وأن الاحترام ينبغي أن يشمل جميع الأديان والأعراق والطوائف، إلا أن الاحترام شيء، والاعتراف الرسمي شيء آخر؛ لأن دستور مملكة البحرين للعام 2002 يحترم جميع المواطنين حين ينصّ على المعاملة المتساوية أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة، وحين يمنع «التمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» (مادة - 18)، وحين ينص على أن «حرية الضمير مطلقة، وتكفل الدولة حرمة دور العبادة وحرية القيام بشعائر الأديان والمواكب والاجتماعات الدينية طبقا للعادات المرعية في البلد» (مادة - 22). إلا أن الدستور ذاته لا يعترف بدين رسمي للدولة غير الإسلام، ولا بلغة رسمية غير العربية، فـ «دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية» (مادة - 2). وهذا يعني أن الأديان الأخرى ولغات القوميات الأخرى تحظى باحترام الدولة إلا أن الاحترام لا ينطوي على الاعتراف بالضرورة. كما أن الدولة لا تسمح، مبدئيا، لأية جماعة بتنظيم نفسها في كيان سياسي تقتصر عضويته على أبناء الجماعة فقط، ويمنع قانون «الجمعيات السياسية» لسنة 2005 تأسيس جمعية سياسية «على أساس طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي أو مهني، أو على أساس التفرقة بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة» (مادة -4/4).
لا يمثّل الاعتراف الرسمي باللغة العربية معضلة سياسية كبرى في دولة مثل البحرين على خلاف ما عليه الحال في السياسات اللغوية المعقدة في دول مثل المغرب والجزائر والعراق وكندا. وليس معنى هذا أن اللغة الأوردية أو الفارسية لا تمثلان مصدرا أساسيا لهوية بعض الآسيويين والبحرينيين من أصول فارسية، بل لأن هاتين الجماعتين هما أكبر جماعتين مؤهلتين للانخراط في سياسات الاعتراف اللغوي بحكم نسبتهم العددية في البلاد، إلا أنهما لم تنخرطا بعدُ في هذه السياسات؛ لكون الأولى جماعة غير منظمة وغير مسيّسة ومعظم أبنائها من المقيمين، في حين أن الجماعة الثانية تتمتع بتنظيم جيد، ولا يعوزها التسييس، إلا أنها تشعر أن الوقت والظروف الإقليمية المتوترة غير مواتية لطرح مطالب سياسية خاصة ومن بينها المطالبة باعتراف رسمي باللغة الفارسية. أضف إلى ذلك أن معظم أبناء هذه الجماعة حديثو التجنّس، وقد يتملكهم، لذلك، شعور قوي بالمديونية أو حتى بالخوف تجاه الدولة التي منحت الجنسية لهم بعد أن كانوا محرومين منها ومصنّفين في خانة «البدون» لعقود طويلة. كما أن أية مطالبة من هذا النوع ستفتح باب جهنم على هذه الجماعة من جهات كثيرة، فهناك القوميون العرب الذين سيكونون لها بالمرصاد، وهناك أجهزة السلطة والجهات الموالية لها في الصحافة وفي مجلس النواب. وستعمد هذه الجهات، مجتمعة ومتفرقة، إلى إساءة تأويل مغرضة لهذه المطالبة بحيث يجري تصويرها على أنها نقص في الولاء للبحرين أو ازدواج في ولائهم السياسي بين البحرين وإيران.
كان من الممكن أن تكون السياسات اللغوية متوترة في حال انتهجت الدولة سياسات عروبية شوفينية، إلا أن الحاصل أن الدولة تعترف باللغة العربية كلغة مرجعية معتمدة في الوثائق والتشريعات والجريدة الرسمية؛ وذلك لحسم أي خلاف قد يطرأ في تأويل نصوص هذه الوثائق والتشريعات. وهذا ما جعل الدولة تنتهج سياسات لغوية متسامحة، فهي تعترف بالعربية كلغة رسمية، ولا تنكر، في الوقت ذاته، على الآخرين حقهم في استخدام لغتهم القومية. إلا أن الملاحظ أن هذه السياسات متقلبة، وثباتها وتقلبها مرهون بالأوضاع الإقليمية وطبيعة العلاقة مع إيران على وجه الخصوص. ولهذا تجدها سياسات متسامحة حينا، ومتعصبة ومأخوذة بهواجس غريبة تجاه عروبة البحرين حينا آخر، مع العلم أن «عروبة البحرين» مصطلح جرت العادة باستخدامه في الخطاب الرسمي للتأكيد على السيادة الوطنية في وجه الادعاءات الإيرانية التي تمسّ سيادة البحرين واستقلالها. وفي سياق هذه الهواجس الغريبة قرّر مجلس الوزراء، في 22 يونيو/ حزيران 2008، تشكيل لجنة حكومية لـ «مراقبة الطائفية»، بحيث تكون مهمتها مراقبة التزام المنابر والصحف والمواقع الإلكترونية بالقيم والثوابت الوطنية، وبخاصة فيما يتعلق بـ»الذات الملكية وسمو ولي العهد والوحدة الوطنية وموضوع الطائفية وعروبة البحرين»، والسؤال هو: ما دخل «عروبة البحرين» في لجنة حكومية مهمتها مراقبة الطائفية؟! واللافت في هذا السياق، أن مركز البحرين للدراسات والبحوث أصدر في شهر يونيو/ حزيران 2008 «التقرير الاستراتيجي البحريني» الأول، وحذّر فيه من أن «البحرين تواجه تحديا رئيسيا يتمثل في مستقبل الهويّة الوطنية للدولة»، ويبدو أن ما يهدد هذا المستقبل، بحسب التقرير، هو وجود خلل في التركيبة السكانية تتسبب فيه العمالة الآسيوية خصوصا.
يمكن لهذه الهواجس الرسمية تجاه العروبة أن تكون مصدر ضغط معنوي لكبح أية رغبة في المطالبة باعتراف رسمي بلغة غير العربية، إلا أن هذه الهواجس قد تتسبب، من جهة أخرى، في تنشيط هواجس الجماعات الأخرى وإيقاظ شعورهم القومي الحماسي بلغتهم الأم. وعندئذٍ سيفهم هؤلاء أن اعتراف الدولة الرسمي باللغة العربية يعكس، في الوقت ذاته، عدم اعتراف أو إساءة اعتراف بلغاتهم، ومن ثَمّ، بثقافاتهم وهوياتهم الثقافية التي تمثّل اللغة إحدى مرتكزاتها الأساسية. ومع هذا، فإن سياسات الاعتراف اللغوي تختلف عن سياسات الاعتراف الديني والمذهبي. وهو الموضوع الذي سيكون محور اهتمامنا في مقالة الأسبوع المقبل
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 2356 - الإثنين 16 فبراير 2009م الموافق 20 صفر 1430هـ