يحدثنا الصديق الوفي «البلاذري» في «فتوح بلدانه» أن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي كان يستخدم الدينار البيزنطي في جميع تعاملاته المالية وفي سائر أنحاء بلاده الشاسعة. وكان البيزنطيون يجبرون الدول الضعيفة على استخدام دينارهم لكي تبقى لهم الهيمنة الاقتصادية والقوة المادية، والويل -كل الويل- لمن يفكر في الخروج على هذا النظام الاستبدادي.
ويبدو أن أحبابنا الأميركان ساروا على نهج أسلافهم البيزنطيين فاستعبدوا الدول الضعيفة، وفرضوا عليها دولارهم المتهالك، ويبدو أن ديمقراطيتهم التي تسير في دمائهم حتمت عليهم نشر هذه الديمقراطية ولو بالقوة، والواضح أن هذه الدول لم تجد مناصا من الاستجابة!
كان عبدالملك - رحمه الله - مختلفا في مناحي تفكيره عن قادة العرب الذين جاؤوا من بعده، فقد لاحظ أن الرومان يكتبون على دنانيرهم عبارات تمجد المسيحية، ولأنه يعرف أن هذه العبارات تصادم معتقداته ومعتقدات سائر المسلمين فقد عزم على التخلص منها، بل ومن سائر الهيمنة الرومانية مهما كلفه الثمن. أمر عبدالملك المختصين عنده بإصدار دينار إسلامي، وأمرهم أن يكون هذا الدينار عملة رسمية لكل تعاملات بلاده في الداخل والخارج، وأعلن - من دون خوف - أنه قرر فك ارتباط عملته بالدينار الروماني الاستبدادي!
ثارت ثائرة الإمبراطور، فأرغى وأزبد، وألقى خطبة عصماء مليئة بالتهديد، وكان مما جاء فيها: إن الذي ليس معنا فهو ضدنا، وأن «عبدالملك» خرج على قواعد العبودية فأصبح إرهابيا من الدرجة الأولى، وقد أصبح القضاء عليه واجبا وطنيا ودينيا، وأن «الرب» أباح له استخدام جميع الأسلحة ما كان حلالا منها أم حراما!
ولم يجد هذا المستبد صعوبة في تسخير مؤسسته الدينية لكي تقف إلى جانبه، وبطبيعة الحال فمعظم المؤسسات الرسمية لا تجد حرجا في تزويد الحاكم بما يحتاجه من فتاوى، والشرط بينهم أربعون!
البابوات في عهده ثم في العهود التالية كانوا يمررون قضايا أساسية إذا اقتضى الحال ذلك!! فالسيد بابا الفاتيكان الحالي لا يجد حرجا في جعل من لا يؤمن بالمحرقة النازية كمن لا يؤمن بالله!! وقد سبقه بابا آخر برأ اليهود من قتل المسيح - عليه السلام - وهو الكلام الذي يؤمنون به، ورددوه آلاف السنين، لكن المصالح الدنيوية لا يقف أمامها - فيما يبدو - لا بابا ولا ماما! كان خطأ الإمبراطور القاتل أنه ظن أنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، وبين أقوام يتمنون أن يحققوا كل رغباته ما ظهر منها وما بطن، وكان هذا الظن سبب هلاكه!
بادر بإعلان الحرب على الدولة الإسلامية، وكان ذلك عام 74هـ. ولم يتوقف - هذا المستبد - عند حد إعلان الحرب لكنه مارس أعمالا «ديمقراطية» أخرى لكي يتمكن من إخضاع الدولة «المارقة» وإعارتها إلى حظيرة «أحمد مطر» التاريخية!
أعلن - بكل قوة - الحصار الاقتصادي الكامل على الدولة الإسلامية، فمنع تصدير السلاح والملابس وسواها، كما أعلن - أيضا - أنه منع جميع رعاياه من السياحة في البلاد الإسلامية ليحاصرهم ويترك «بلاجاتهم» خالية من اللحوم البيضاء!
وأخطأ الإمبراطور - مرة أخرى - وأظنه تخيل أنه يعيش في عصرنا، وأنه إذا أمر دولة عربية أو مجموعة دول بمحاصرة دولة عربية من جنسها فإنهم سيبادرون بفعل ذلك بكل سرور وغبطة! ولعل مثل ما يحدث في غزة شاهد على الأصالة العربية التي تجري في دماء كل الذي يحاصرونها!
ويبدو أن عبدالملك لم يكن عربيا على الطريقة الحديثة فأعلن - مباشرة - مقاطعة الروم اقتصاديا وسياسيا وسياحيا، ولم يكشف بذلك، بل جهز جيشا قويا - ليس فيه عربي مشوه - واستطاع أن يهزم الروم شر هزيمة، والمؤكد عندي أن عبدالملك درس نفسية المستبدين وعرف أنهم لا يفهمون إلا لغة القوة، وهكذا فعل.
ومن حسن خط «عبدالملك» أن شعبه لم يكن فيه «منبطحون» ولا دعاة سر يرون المقاومة تهورا، ولا دعاة استسلام للأعداء دون قيد أو شرط، كل ذلك جعله يتمكن من هزيمة عدوه، ويعيد هيبة الدولة المسلمة، ويغضي على الاستبداء والمستبدين. أباطرة الرومان الحاليون صنفوا كل حركات المقاومة بأنها إرهابية، والزموا الكثيرين بهذا التصنيف حتى من العرب «العاربة» وقالوا للعربان: امنعوا عن «الإرهابيين» الطعام والباس والسلاح... ضيقوا عليهم بكل الطرق... يسروا على الصهانية «الديمقراطيين» ذبحهم... فقالوا سمعنا وأطعنا... نحن - يا سيدي - نحسب السلام ونعشقه حتى ولو لم نره، ولا تتوقع أن نراه... سعادتك سعادتنا!!
عبدالملك قاطع الدينار الروماني، ونحن لازلنا متشبثين بالدولار الأميركي رغم كل فضائحة، ورغم كل خسائره وخسائرنا... فهل يأتي اليوم الذي نصحو فيه ويكون لكل العرب عملة واحدة، وتحتفي الحدود، وتزول القيود؟
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2356 - الإثنين 16 فبراير 2009م الموافق 20 صفر 1430هـ