على خلفية انفجارات قطارات مدريد انعقدت في مبنى اليونسكو الأسبوع الماضي في باريس ندوة بدعوة من «المنظمة العربية للعلوم والثقافة» تبحث في العلاقات المستقبلية بين العرب وأوروبا، وكان في يقين البعض أن الانفجارات تلك قطعت كل خيوط التفاهم بين العرب، أو قل بعض العرب المتشددين وبين أوروبا، التي بدأت حتى ذلك الوقت تأخذ موقفا بين موقفين تجاه رأي الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب.
بعد الانفجار الذي قتل المئات من البشر، وغيّر سير الانتخابات الإسبانية، تنبهت أوروبا على صباح مشبع بالتشاؤم، رفعت درجات الاستنفار في مدن أوروبا الرئيسية، بل إن بعض الصحف قارنت بين ما حدث في واشنطن ونيويورك في 11سبتمبر/ أيلول عام 2001، وسمت انفجارات مدريد في 11مارس/ آذار «بأنها سبتمبر الأوروبي».
كان الحشد في «ندوة باريس» خليطا من الأوروبيين والعرب الأوروبيين، إن صح التعبير، وبعض المهتمين العرب بالشأن العام، ولم يكن خطاب الأخيرين، نتيجة الإحباط إلا وجه العملة الآخر للتشدد!
اما أن يتم اللقاء فمن المؤكد انه خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح، إذ إن الحوار والفهم هما البديلان الحقيقيان للتخندق والانعزال.
السؤال الذي كان علي أن أجيب عنه! هل العلاقة مع الغرب اليوم، التي تتسم بسبب عدد من الأفعال بالسلبية، هي علاقة سلبية دائمة، وهل الاتجاه مهما فعلنا سيكون باتجاه القطيعة، أم أن ذلك «مرحلة تاريخية» يمكن أن تفهم ويقدم العقلاء حلولا لمشكلاتها؟
في الإجابة كان لا بد من العودة إلى التاريخ، لا من اجل تكراره، ولكن من اجل استخلاص الدروس والمقارنة.
في العام 1937 قرر الكونغرس الأميركي أن يعهد إلى لجنة علمية متخصصة دراسة مستقبل التقنية في الولايات المتحدة في الثلاثين عاما المقبلة، وضمت هذه اللجنة المكونة من كبار عقول التفكير العلمي الأميركي وقتها أفضل ما يمكن أن تتكون منه لجنة، فكانت من جميع التخصصات والفروع العلمية، ثم قدمت تقريرها عن مستقبل التقنية إلى الكونغرس.
من ضمن ما فات اللجنة توقعه أو الإشارة إليه حتى من بعيد في هذا الموضوع المهم ومن بين أمور أخرى كثيرة، الكمبيوتر، الرادار، المضادات الحيوية، والمحرك النفاث للطائرات (على العكس فقد اعتقدت اللجنة أن الطائرات لن تستطيع أن تطير بأسرع من الطائرات المعروفة وقتها).
إذا كانت لجنة علمية على هذه السوية لم تستطع أن تتعرف على المستقبل وتطوراته التقنية، فكيف يمكن لنا اليوم أن نتعرف على مستقبل (للعشرين سنة المقبلة) على صيرورة تطور علاقات إنسانية، تتداخل فيها المصالح والرغبات والاماني! لذلك فإن العلاقة العربية بأوروبا علاقة قد تكون هي الأسوأ اليوم، لكن جزء الحاضر لا يعني كل المستقبل.
من المهم أن نرى العلاقة الحالية الشائكة بحجمها من دون تضخيم، ويرجح أن تكون هذه الفترة الحرجة هي فترة عابرة في تاريخ العلاقات الأوروبية العربية لعدد من الأسباب:
الأول جغرافي، فالقرب الجغرافي بين أوروبا وكثير من البلدان العربية يحتم على الجميع النظر في مستقبل العلاقات بأن تكون طبيعية وعادية تتبادل فيها المصالح وتحترم، والخطورة أن يطول زمن «تحالف المتشددين» الذي يفرز ما يفرز من عنف وقطيعة اليوم. فهناك متشددون على الطرف العربي، يحاولون قدر جهدهم أن يخربوا العلاقات الدافئة مع أوروبا، على أساس وضع اللوم أو بعضه لما يحدث لهم في أوطانهم من فشل التنمية، وما تفرزه من سلبيات على السياسات الأوروبية، ويقابل هذا التشدد بأقلية متشددة أوروبية، تأخذ بأشكال والعنصرية وتغلفها بغلاف وطني وقومي، وفيما بين الطرفين توجد فئات سياسية تريد أن تحصل على مصلحة من ذلك فتغذي التطرف، في الجانب العربي تريد تأخير الإصلاح بحجة حرب المتطرفين، وفي الجانب الأوروبي تريد عرقلة التعاون البناء، بحجة حرب التطرف وطرد العرب المسلمين من أوروبا!
في مقابل تحالف المتشددين، هناك دعوة ورغبة في تشكيل تحالف مضاد، وهو (تحالف المتسامحين)، أي أن هناك شرائح واسعة عربية مسلمة، وغربية ليبرالية لها مصالح في تكوين تحالف يقوم على عدد من الحقائق.
فهناك حاجة ماسة في أوروبا للزيادة السكانية التي بدأت تتناقص تدريجيا جراء عملية التحضر السريعة، وتشيخ في الوقت نفسه، وهناك تقديرات اليوم أن أوروبا يعيش فيها نحو عشرة ملايين عربي ومسلم، وسيزداد هذا الرقم في العشرين سنة المقبلة ليرتفع إلى ستين مليون عربي مسلم.
هذا الرقم المتوقع، عدا المصالح الحقيقية التي تربط الاقتصاد الأوروبي بالجيران العرب، يجعل من تحالف التسامح نداء لا يمكن أن يتجاهله عاقل.
في أوروبا يبدو العمل حثيثا للتقارب. ففي الورقة التي قدمها متحدث من هولندا شرح الخطوط العريضة للخطوات التي تقوم بها الحكومة الهولندية من أجل «استيعاب» العرب المسلمين في المجتمع الهولندي، عن طريق إعادة تأهيل «الأئمة» والدعاة، وتعريفهم بالثقافة الهولندية والأوروبية، بل وإيجاد معاهد للتدريب لمثل هؤلاء استعدادا للمستقبل. وعلى النطاق الأوروبي هناك جهود من خلال «المجلس الإسلامي الأوروبي» لوضع خطط الاستيعاب والتكيف للمهاجرين العرب المسلمين إلى أوروبا، بل إن وزير الداخلية الفرنسي، وغيره من المهتمين، يتحدثون اليوم عن «إسلام أوروبي» يذكرنا كثيرا بمقولة الشيخ محمد عبده، عند زيارته لأوروبا إذ قال: «وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين» كناية عن أن الشكل الحضاري والإنساني السائد في أوروبا بين شعوبها آنذاك هو أمر في إطلاقه لا يبتعد كثيرا عن تعاليم الإسلام الحنيف المتسامح.
ليس مجرد اللقاء في رحاب اليونسكو يمكن أن يضع حلولا للقضايا الشائكة التي تطورت في غفلة عن «أهل الحل والعقد» في مشرقنا، أو قل بسبب الغفلة السياسية والتنموية لديهم، ألا إننا نعيش في عصر لا يمكن فيه إغلاق أبواب الأوطان أو تحجيم الشعوب عن التطلع إلى الأفضل.
فالحلول الموجهة للتطرف هي حلول تنبع من الداخل، وأيضا من الخارج، فالداخل مطالب ببذل جهد حقيقي في رفع سقف الحريات، مع ما يصاحبها من تنمية شاملة على رأسها التنمية الثقافية، ومنع القلة المتشددة من استقطاب الشباب بسبب الحاجة إلى مسالك العنف عن طريق بناء المؤسسات الحديثة، وتنبع بعض الحلول من الخارج عن طريق المساهمة الحقيقية في التنمية، ونبذ التعصب، وعدم اخذ الغالبية بجريرة الأقلية.
واضح من الأوراق المقدمة في هذا اللقاء، الجدية التي تأخذها المؤسسات الغربية في محاولة فهم «الاشكال الشرقي» ووضع الحلول من اجل عدم تفاقم المشكلات الناجمة عنه ومنه، وواضح أيضا القصور العربي الجمعي في العمل على دراسة المشكلات التي يواجهها العرب دراسة علمية، ووضع الحلول لها، على أساس تفكيرهم التقليدي إن الزمن كفيل بحلها
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 564 - الإثنين 22 مارس 2004م الموافق 30 محرم 1425هـ