من سوء طالع البشرية في القرن الجاري، هذا التحول المتسارع في «الارهاب» كعملية قسرية ممرها أجساد المدنيين من الأعراق والألوان والملل كافة، وتحوله الى صناعة احترافية لعينة لادين ولاملة ولاعقيدة لها، بحيث لايميز بين أهداف سياسية مباشرة أو غير مباشرة يمكن لها أن تتحقق في سياق عمل مشروع ونظيف لأي من القوى السياسية والمجتمعية التي تحمل مشروعا وطموحا للتغيير في أي من المجتمعات في العالم.
والارهاب نقيض السياسة، باعتباره سلوكا فجا بلغة دموية عمياء لاتميز أيضا بين الضوابط الخلقية التي فطر الناس عليها. وتاليا لم تؤدِّ عملية ممارسة الارهاب ذاته، أية أهداف سياسية سوى إعادة تأزيم القضايا الخلافية الموجودة في مناطق وبؤر عدة من المعمورة، والحط من قيمة عدالتها وصفائها، اذا ما أحتسبت أي منها تحت عنوان القضايا العادلة.
هذه الجمل تأتي بعد وقت قصير من تفجيرات محطات القطار في اليوم الدامي الذي عاشته العاصمة الإسبانية مدريد، وسقوط المئات من الأبرياء ينتمون الى ثلاثين بلدا، في مشهد أعاد أمام الكاميرا وأبصار المشاهدين على امتداد الكرة الأرضية ماجرى يوم 11 سبتمبر/ أيلول في نيويورك وواشنطن، وخصوصا أن إسبانيا من الدول التي لاتعاني من اشكالية» بالمعنى السياسي «في المجتمع الدولي، وتحظى بحضور محترم في الخريطة العالمية، وبمواقف ايجابية بالنسبة لقضايا العدل في العالم وفي فلسطين على وجه التحديد، بغض النظر عن خصوصية الموقف الاسباني بشأن الملف العراقي الذي انحكم الى موضوعة التباينات داخل دول الاتحاد الأوربي، وتفاقم التأرجح والاصطفاف بين دوله عشية الحرب على العراق».
ومع أن التغليب مازال يؤشر على أيادي وبصمات منظمة «ايتا» الانفصالية التي تنشط في اقليم الباسك / شمال إسبانيا، وذلك وفق المصادر الأمنية والحكومية الإسبانية، وهو تغليب منطقي ترجحه عوامل الصفاء في العلاقات الإسبانية الخارجية، وانتفاء التوتر في علاقات مدريد مع أي من الأطراف السياسية الحاكمة أو غيرها في أي من مناطق التوتر في العالم. ومع هذا فإن قوس الاحتمالات جميعها يبقى قائما بما في ذلك الاحتمال المتعلق بلجوء أطراف إسبانية داخلية لتسعير الأوضاع على خلفية الدورة الانتخابية الداخلية قبل يومين من بدئها.
وبغض النظرعن عنوان الأيدي التي تختفي وراء ارهاب مترو محطات القطار، فان النتيجة تبقى واحدة، والابرياء هم ذاتهم، أكان الفاعلون من منظمة «إيتا» الانفصالية الناشطة في إسبانيا منذ عقود، أو أي من الجماعات المحلية أو حتى الخارجية، وعليه فإن تفجيرات مدريد أعادت بقوة طرح مجموعة من الأسئلة المتعلقة بموضوع الإرهاب وتعريفه، وخصوصا أن الحدث المؤلم والمدان الذي أوقع مئات الضحايا الأبرياء قد يصبح مثارعملية استخدامية لدى بعض القوى الدولية لتحقيق جملة من الأغراض تتعدى مقاومة (الإرهاب) في سياق إحداث التداخل المشبوه بين الإرهاب ذاته والمقاومة المشروعة للشعوب في العالم، ومنها المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني ضد الاحتلال والاستيطان الكولونيالي التهويدي التوسعي فوق الأرض الفلسطينية، ويمكن أن نلحظ العامل الاستخدامي لمأساة نتائج تفجيرات مدريد حجم التباكي الرسمي الاسرائيلي، والربط بين ماجرى هناك وما يجري في ساحة الصراع على أرض فلسطين إذ محاولة الخلط الاسرائيلية بين ارهاب الاحتلال والمقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني.
ان تواتر المواقف الدولية التي تلت تفجيرات مدريد، واختلاط المفاهيم بين ماجرى من عمل مدان في إسبانيا، وبين ما يجري في أماكن ثانية في العالم، تخفي وراءها اللبس الموجود بشأن تعريف الإرهاب، ويبرز الالتباس المشار إليه بشكل أقل حدة عند الأطراف الأوروبية وبتفاوت بين دولها. ومن هنا فإن الحاجة الماسة تقتضي دوليا تعريف متفق عليه للإرهاب على المستوى الدولي، بعيدا عن الانتقائية وازدواجية أو تعدد المعايير. تعريفا يقتضي بالضرورة إجماعا دوليا على ضرورة مواجهة الإرهاب واقتلاعه من جذوره، مع أن المقاربة في توصيف الإرهاب وإعطائه التعريف الشامل من دون انتقائية مازال أمرا يخالطه الشك والريبة، فسياسة المصالح الاستراتيجية الكبرى أحيانا، والمصالح التكتيكية عند بعض القوى المتنفذة مازالا يشكلان العقبة في السير قدما نحو اعطاء تعريفي دولي قطعي متفق عليه للارهاب
العدد 563 - الأحد 21 مارس 2004م الموافق 29 محرم 1425هـ