لاشك في أن إنشاء محكمة دستورية في مملكة البحرين وبدء أولى جلساتها يوم الاثنين الموافق 23 فبراير/ شباط 2004، يعد حدثا مهما في تاريخ البحرين، يعزز مسيرة الإصلاح التي يرعاها جلالة الملك، ويشكل علامة بارزة وخطوة مهمة لتثبيت دعائم الشرعية وسيادة القانون، ويأتي استجابة لما نص عليه ميثاق العمل الوطني في الفقرة (سادسا) من الفصل الثاني «نظام الحكم» على أنه (تعمل الدولة على استكمال الهيئات القضائية المنصوص عليها في الدستور وتعيين الجهة القضائية التي تختص بالمنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح).
وقد عين الدستور الجديد في المادة 106 هذه الجهة القضائية التي تختص بالرقابة على دستورية القوانين واللوائح إذ نصت على أنه: (تنشأ محكمة دستورية، من رئيس وستة أعضاء يعينون بأمر ملكي لمدة يحددها القانون، وتختص بمراقبة دستورية القوانين واللوائح. ويبين القانون القواعد التي تكفل عدم قابلية أعضاء المحكمة للعزل، ويحدد الإجراءات التي تتبع امامها، ويكفل حق كل من الحكومة ومجلس الشورى ومجلس النواب وذوي الشأن من الافراد وغيرهم في الطعن لدى المحكمة في دستورية القوانين واللوائح. ويكون للحكم الصادر بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة اثر مباشر، ما لم تحدد المحكمة لذلك تاريخا لاحقا، فاذا كان الحكم بعدم الدستورية متعلقا بنص جنائي تعتبر الاحكام التي صدرت بالادانة استنادا الى ذلك النص كأن لم تكن. وللملك ان يحيل الى المحكمة ما يراه من مشروعات القوانين بل اصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور، ويعتبر التقرير ملزما لجميع سلطات الدولة وللكافة).
واعمالا لهذا النص الدستوري صدر المرسوم بقانون رقم 27 لسنة 2002 بإنشاء المحكمة الدستورية بتاريخ 14/9/2002، ضمن حزمة المراسيم بقوانين التي اصدرتها السلطة التنفيذية بعد صدور الدستور الجديد في 14/2/2002 وقبل تاريخ أول اجتماع للمجلس الوطني في 14/12/2002 ومن دون ان يتوافر لهذه المراسيم ركن الضرورة أو الاستعجال اللازم لاصدارها.
وقد حدد المرسوم بقانون إنشاء المحكمة الدستورية، اختصاصات هذه المحكمة كما جاءت في نص المادة 106 من الدستور وهي (الفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين واللوائح) كما اوضح إجراءاتها والاحكام الخاصة بتشكيلها وضمانات أعضائها وواجباتهم والاحكام والقرارات التي تصدرها، كما حدد الجهات التي يحق لها رفع النزاع المتعلق بالرقابة على دستورية القوانين واللوائح.
ولتحقيق الغاية من هذه الندوة وهي اعطاء فكرة بسيطة مبسطة عن مفهوم المحكمة الدستورية، سيقتصر حديثنا على الاساس الذي تقوم عليه رقابة المحكمة الدستورية على دستورية القوانين واللوائح، ومفهوم هذه الرقابة، واختصاصات هذه المحكمة، والجهات التي يحق لها رفع المنازعات الدستورية، وما شاب النص الدستوري واحكام المرسوم بقانون إنشائها من عيوب.
1- الاساس الذي تقوم عليه الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح:
يستند حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين واللوائح الى مبدأ الشرعية، وهو يعني احترام تدرج القواعد القانونية، اي سيادة حكم القانون بخضوع وتقيد الافراد وجميع السلطات العامة في الدولة على السواء للقانون واحكامه، فكل قاعدة قانونية تصدر عن سلطة أعلى تعتبر اقوى من التي تصدر عن سلطة أدنى، فيخضع القرار الاداري التنظيمي (اي اللائحة) للقانون، وتخضع اللائحة والقانون للدستور الذي يسمو على جميع التشريعات الأخرى. وعدم احترام هذا التدرج يسقط عن الدولة صفتها القانونية، ولضمان احترام هذا التدرج، لابد من تقرير حق القضاء في مراقبة دستورية القوانين التي تصدرها السلطة التشريعية، ودستورية اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية اي مدى مطابقتها لاحكام الدستور.
وهذا ما فعله دستور مملكة البحرين لسنة 2002 حين نص على تقرير هذا الحق للمحكمة الدستورية بموجب المادة 106 كما اسلفنا، ويلاحظ هنا ان المشرع الدستوري قد استبعد لفظ (جهة قضائية) كما كان عليه نص دستور 1973 واستعمل اصطلاح (محكمة دستورية).
2- مفهوم الرقابة على دستورية القوانين واللوائح:
المقصود بهذه الرقابة هو بكل بساطة شديدة تقرير حق لجهة قضائية في ان تراقب مدى مطابقة القانون أو اللائحة لأحكام الدستور فاذا صدر قانون أو لائحة بالمخالفة لاحكام الدستور فالمحكمة الدستورية تتصدى لهذه المخالفة وعليها ان تحكم بعدم دستورية القانون اما بكامل نصوصه واما بنص أو بنصوص منه.
واذا كان معروفا لكم معنى القانون، فإن معنى اللوائح التي تخضع لرقابة المحكمة الدستورية هي تلك القرارات الادارية التنظيمية التي تصدر عن السلطة التنفيذية لتعبر من خلالها عن ارادتها، فمتى ما وجدت المحكمة الدستورية قرارا اداريا قد صدر خلافا لاحكام الدستور فإنها تقضي بإلغائه، وبهذا المعنى تتحقق رقابة القضاء على أعمال السلطة التنفيذية من حيث مدى مطابقتها للدستور، اما مدى شرعية هذه اللوائح في مواجهة نصوص غير نصوص الدستور اي مدى مطابقتها للقانون التي ينظم اللائحة فإنها تخرج من اختصاص المحكمة الدستورية وتكون من اختصاص المحكمة الادارية التي تم إنشاؤها حديثا في مملكة البحرين.
وللرقابة على دستورية القوانين واللوائح أسلوبان:
الأسلوب الأول الرقابة السياسية:
وليس المقصود بهذا الأسلوب ان تكون الجهة القضائية التي تقوم بها ذات طابع سياسي أو ان تكوينها يقتصر على السياسيين، بل المقصود به ان لا تكون هذه الرقابة تابعة لأي من السلطات الثلاث في الدولة، وان تتكون من السياسيين ومن غيرهم الذين لهم خلفية قانونية وعملوا في السياسة من القضاة والمحامين واساتذة القانون ورؤساء مجالس نيابة سابقين، وان تعينهم يتم بواسطة السلطات الثلاث، بحيث تكون الغلبة في التعيين للسلطة التشريعية باعتبارها ممثلة الأمة.
والمثال الأبرز على مثل هذه الرقابة هي فرنسا، فمنذ قيام الثورة الفرنسية وحتى اليوم يختص (المجلس الدستوري) بمراقبة دستورية القوانين واللوائح ويتكون هذا المجلس من جميع رؤساء الجمهورية السابقين الذين يكتسبون العضوية فيه حكما، ومن أعضاء معينين عددهم (تسعة)، يعين رئيس الجمهورية (ثلاثة) منهم، وتقوم السلطة التشريعية باختيار (الستة) الآخرين. ويلاحظ في هذا النظام انه ليس للسلطة القضائية أي حق في هذا التعيين.
الأسلوب الثاني أسلوب الرقابة القضائية:
في هذا النوع من الرقابة فإن الدستور نفسه يسند مهمة الرقابة على دستورية القوانين واللوائح للسلطة القضائية كما هو الحال في الولايات المتحدة، فالسلطة القضائية تباشرها محكمة عليا واحدة هي المحكمة الدستورية العليا.
الأسلوب الذي سار عليه المشرع البحريني:
على رغم أن المادة (1) من المرسوم بقانون بتشكيل المحكمة الدستورية قد نصت على ان المحكمة الدستورية في مملكة البحرين تعتبر هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، الا ان تعيين رئيسها وأعضاءها بأمر ملكي طبقا لما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 106 من الدستور قد ينال من استقلاليتها على رغم تقديرنا الكبير لرئيسها وأعضائها الذين لا نشك في نزاهتهم وعدلهم، آملين ان يكون ما نص عليه الدستور في المادة 104/ب بأنه (لا سلطات لأية جهة على القاضي في قضائه ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة...). تدعيما لاستقلالية المحكمة الدستورية.
وكان على المشرع الدستوري ان يجعل للبرلمان المنتخب من الشعب نصيبا في اختيار أعضاء المحكمة الدستورية، وخصوصا ان ميثاق العمل الوطني استعمل لفظ (جهة قضائية) واستبعد اصطلاح (محكمة) وهو يدل على ان الميثاق اراد ان يشتمل تعيين اعضاء المحكمة الدستورية على جهات متعددة وفي المقدمة منها مجلس النواب.
3- الجهات التي يحق لها رفع المنازعة أمام المحكمة الدستورية:
كفل نص المادة 106 من الدستور حق كل من الحكومة ومجلس الشورى ومجلس النواب وذوي الشأن من الأفراد وغيرهم في الطعن لدى المحكمة الدستورية في دستورية القوانين أو اللوائح، وعلى رغم أن هذا النص الذي يسمو على القانون كفل بوضوح حق (ذوي الشأن من الأفراد) في الطعن لدى المحكمة الدستورية، شأنهم في ذلك شأن مجلس النواب والشورى والحكومة، الا أن المرسوم بقانون إنشاء المحكمة الدستورية قد تجاهل هذا الحق وأغفله، فحرم الأفراد من الطعن في دستورية القوانين أو اللوائح، إذ قصر المشرع العادي بموجب المادة (18) منه، حالات الطعن بعدم الدستورية على الوجه الثاني:
أ- بطلب من رئيس الوزراء أو رئيس مجلس الشورى أو رئيس مجلس النواب.
ب- إذا تراءى لإحدى المحاكم أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو لائحة لازم الفصل في النزاع، أوقفت الدعوى، وأحالت الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية للفصل في المسألة الدستورية (ابرز مثال لهذه الحالة الحكم الصادر من المحكمة الكبرى الجزائية في الدعوى الجنائية المرفوعة من النيابة العامة ضد «أخبار الخليج»).
ج- إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، ورأت هذه المحكمة أن الدفع جدي أجلت نظر الدعوى، وحددت لمن أثار الدفع ميعادا لا يجاوز شهرا واحدا لرفع دعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد المحدد اعتبر الدفع كأن لم يكن (ابرز مثال لهذه الحالة الحكم الصادر من المحكمة الكبرى الجزائية المرفوعة من النيابة العامة ضد نشرة «الديمقراطي» الذي تم تأييده استئنافا).
هكذا يلاحظ أن هذا النص السابق لا يشتمل على ما نص عليه الدستور من حق الأفراد في الطعن بعدم الدستورية وهو الأمر الذي يجعله معيبا، وينال من جوهر الحق في التقاضي، وتمتد ملاحظاتنا على نظام المحكمة الدستورية إلى ما جاءت به الفقرة الأخيرة من نص المادة 106 وهي (وللملك أن يحيل إلى المحكمة ما يراه من مشروعات القوانين قبل اصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور، ويعتبر التقرير ملزما لجميع سلطات الدولة وللكافة).
فهذه الفقرة تحرم كل الجهات التي يحق لها رفع المنازعات الخاصة بالرقابة على دستورية القوانين، من الطعن في عدم دستورية أي قانون سبق وأن إحالة جلالة الملك للمحكمة الدستورية، وهي تلك الجهات التي نصت عليها المادة المذكورة من الدستور والمادة 18 من المرسوم بقانون رقم 27 لسنة 2002 بإنشاء هذه المحكمة، إذ لا يجوز للحكومة ولا لمجلس الشورى أو مجلس النواب، ولا للمحاكم أو الخصوم، الطعن في دستورية أي قانون أو أية مادة من مواده سبق وأن أحالها جلالة الملك للمحكمة الدستورية، إذ يعتبر تقريرها ملزما لجميع سلطات الدولة والكافة، وفي ذلك:
أولا: إهدار لحق هؤلاء في التقاضي وفي الدفاع فيما قد يتراءى لهم من وجود مخالفة دستورية حتى لقانون قد سبق وإن تم عرضه على المحكمة الدستورية، فلربما يكشف التطبيق العملي عن وجود مخالفة في إحدى مواد القانون للدستور لم تكن حينها الوقائع المادية المرتبطة بالقانون قد نضجت، ويستحيل من ثم أن تكون حينها تحت بصر المحكمة.
وثانيا: أن في ذلك حرمان للمحكمة الدستورية ذاتها مما قد يعرضه القضاء الواقف (المحامون) من دفوع قد تنير طريق المحكمة في الوصول إلى الحقيقة وفي تطبيق العدالة، خاصة وأن المادة (20) من المرسوم بقانون إنشاء المحكمة الدستورية تشترط لرفع الدعاوى أمام المحكمة الدستورية أن تكون لوائحها موقعه من محام مقبول أمام محكمة التمييز.
وثالثا: أن التقرير الذي تصدره المحكمة الدستورية بموجب الفقرة الأخيرة هو بمثابة فتوى وإبداء رأي من المحكمة لجلالة الملك، وهو ما يشكل اخلالا بأهم المبادئ التي تحكم عمل القضاة وهو أن يمتنع عليهم إبداء رأيهم في نزاع قد يعرض عليهم أمر الفصل فيه، وهو ما يعرف بقاعدة أن (القاضي لا يستفتى)
إقرأ أيضا لـ "حسن علي اسماعيل"العدد 562 - السبت 20 مارس 2004م الموافق 28 محرم 1425هـ