من اجمل السير في تاريخنا قصة الخليفة الأموي الصالح عمر بن عبدالعزيز، لأن في حياته القصيرة عبرة. وسنضطر إلى التحدث عنه بعد أن تكلمنا عن مبادئ الاسلام القائمة على العدل والإنصاف والتنزه عن المال العام، فلم يستمعوا.
تبدأ القصة يوم الجمعة 9 صفر العام 99 هجرية، حين اختار الخليفة المحتضر سليمان بن عبدالملك زوج ابنته عمر خليفة. التاريخ لم يسجل له شيئا يفخر به المرء قبل هذا التاريخ، فقد كان كغيره من الأمراء الغارقين في البذخ والترف والنعيم. وكان ثمن لباسه يزيد على 5 آلاف درهم، وربما سقطت قطعة من لباسه بآلاف الدراهم على الأرض فيتركها تكبرا. وكان عطره مستوردا من الهند، وكان الأشراف يعطون الغسالة مالا لتخلط ملابسهم بملابسه لتعلق رائحته بها.
ومع دخوله القصر بدأت تتسرب أخبار غريبة، لو كانت هناك فضائيات لتناقلتها أولا بأول على الهواء مباشرة كأخبار عاجلة. فالخليفة الجديد رفض مركب الخلافة، وألغى الموكب المعتاد بأبّهته وركب دابته، كما ألغى حفلات البيعة الباذخة التي تكلف خزانة الدولة الملايين، والأخطر... انه رفض مد يده إلى أموال الخزينة.
زوجته فاطمة التي عرفته شابا مترفا منعما كانت أكبر المندهشين، فقد غاب عنها أياما ثلاثة ليعود إنسانا آخر شاحب الوجه مضطرب النفس، فلما استفسرت أجابها: «يا فاطمة، حملت أثقل حمل، وسأُسأل عن القاصي والداني من أمة محمد، وهذه الأموال التي تحت أيدينا وتحت أيدي اخوتك وأقربائك أُخذت كلها من أموال المسلمين، وأنا عازم على ردها إليهم بادئا بنفسي... فإن لي نفسا تواقة، اشتهت الإمارة فلما نلتها تقت إلى الخلافة، فلما نلتها تقت إلى ما هو خير منها، وهو الجنة». فقالت الزوجة الصالحة: «اصنع ما تراه، فأنا معك».
عدس وجواهر
وبدأ عمر ثورته الإصلاحية بعتق العبيد وتسريح الخدم، ترك القصر وسكن دارا صغيرة في دمشق، عاش معه فيها خادم واحد فقط، ولما طال عليه الأمد صاح متبرما بطعامه: «عدس، عدس، كل يوم عدس»!
ولم يبق له غير قطعة أرض اشتراها من كسبه. وذات يوم قال لزوجته: «إن هذه الجواهر أخذها أبوك من أموال المسلمين وأهداها إليك، واني أكره أن تكون في بيتي. فاختاري إما أن ترديها لبيت المال أو ائذني بفراق»، فاختارت الزوج الصالح على الجواهر و«وسخ الدنيا».
دخل عليه رجل من الصالحين الناصحين، فاعترف له عمر بما أضناه البارحة من تفكير بالقبور وسكانها، فلم يحاول أن يصرف تفكيره عن هذا الاتجاه ومطالبته بـ «تغيير الجو» وأخذ رحلة سياحية إلى أوروبا أو مصائف الشمال، وإنما قال وهو يدفع في الاتجاه التطهيري نفسه: «فكيف بك يا عمر لو رأيت الميت بعد ثلاثة أيام وقد بدأ الدود يزحف على جسده بعد تلك الهيئة وطيب الرائحة؟» فبكى عمر حتى أغشي عليه. فلما رأته فاطمة بكت عليه جزعا.
أراد عمر (رحمه الله) أن يصلح الأمة، ووضع يده على الجرح الذي آذاها طويلا حتى أفسد عليها حياتها ومعاشها ودينها، ذاك هو صراع المطامع والمصالح و«الفلوس التي تخرّب النفوس». ولأنه جاء بالإصلاح وأراد فرض المساواة والعدل في بيئة تربت على السرقة والتمييز والتلاعب بأموال الناس، واتخاذ المنصب سلما لابتلاع المزيد من الأموال، لذلك احتوشوه من كل جانب، حتى قضى مسموما محمودا، تُجمع على الثناء به كل طوائف المسلمين، وتردد فصول سيرته العطرة بإجلال، حتى اعتبره البعض خامس الخلفاء الراشدين.
لما قتله أقرباؤه المتضررون من سياساته بالسم بكته زوجته طويلا حتى عشي بصرها. ودخل عليها أخوها الساذج هشام بن عبدالملك فظن أنها تبكي على الجواهر والأموال، فعرض عليها ما تشاء، أليست مستنزفة من بئر أموال المسلمين المغيّبين؟ ولكن المرأة الصالحة قالت: «ما أبكي على مال ولا نعمة، وما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا، لا حاجة لي بها»، فأخذها وقسمها بين نسائه وكأنها ميراث أبيه!
رحم الله عمر بن عبدالعزيز، الذي صان أموال الأمة وحرص عليها، ذهب نقي الذيل، بعد 1324 عاما يقوم من يكتب عن سيرته العطرة من يريد أن ينبه النيام المغترّين بالدنيا، لعلهم يتذكرون - إن هم أصروا على أخذ ما ليس لهم من أموال الأرامل والأيتام - حال الميت في اليوم الثالث حين يبدأ الدود يزحف على جسده بعد تلك الهيئة وطيب الرائحة، لعلهم ينتهون ولا يستكبرون
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 562 - السبت 20 مارس 2004م الموافق 28 محرم 1425هـ