العدد 562 - السبت 20 مارس 2004م الموافق 28 محرم 1425هـ

إسقاط العراق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مشهد انسحاب بعض الصحافيين العرب والعراقيين من المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير الخارجية الأميركي كولن باول برفقة مندوبه بول بريمر في بغداد يكثف الى حد كبير تلك الحال المأسوية التي وصل اليها العراق في الذكرى السنوية الأولى للحرب. فوزير الخارجية الأميركي جاء الى بغداد للاحتفال وتعداد «الإنجازات» التي حققتها قواته، ولكنه وجد نفسه أمام تظاهرة احتجاج رمزية ضد سلوك القوات الأميركية المضطرب في التعاطي مع أبسط حقوق الانسان.

المشهد كان كافيا لابلاغ الرسالة من فئة تمارس عملها المهني تعرضت أيام سلطة الاستبداد للملاحقة وتكميم الأفواه وهي الآن تتعرض لاطلاق الرصاص من قوات أجنبية تدعي تحرير الشعب من الظلم والطغيان. فالمشهد يعطي فكرة عن تلك العلاقة المضطربة والمشوشة بين الطرفين.

القوات المحتلة بعد مرور سنة على حربها باتت تعيش حالات من التوتر النفسي بلغت مستوى الشك المطلق في كل العراقيين، وجمعية الصحافيين استبقت باول في كلامها ونقلت رسالة وهي أن العراقيين أيضا وصلوا الى شفير الهاوية وبات اليأس هو المسيطر.

بعد مرور سنة على الحرب تهاوت كل الذرائع التي ذكرتها واشنطن عن دوافع اندلاعها ولم يتبقّ لديها سوى الحديث عن المقارنة بين السابق والحالي. فبرأي باول ان العراق الآن في أفضل حالاته أو على الأقل هو أفضل من السابق. هذا هو الانجاز الوحيد الذي تبقى للادارة الأميركية، فهي منذ أكثر من ستة أشهر تكرر الاسطوانة (الأغنية) نفسها. «الآن أفضل من السابق» «أسقطنا صدام حسين وهو أسير حرب عندنا»... ماذا تريدون غير ذلك؟ لماذا الطمع يا شعب العراق؟

كل هذا التنويع على الكلام المكرر أعيد قوله مرارا في الشهور الأخيرة. وهو كلام أعاد باول تكراره في مؤتمره الصحافي في بغداد عقب خروج بعض الصحافيين من القاعة. فباول يريد خضوع الشعب العراقي للاحتلال مقابل هذه الخدمة التي قدمتها القوات الأميركية. وهذا كما يبدو لسان حال الاحتلال الذي بات يمر في مأزق يمزق جنوده بين كتلة تريد الانسحاب تاركة الساحة لأصحابها، وبين كتلة تعتبر أن الشعب العراقي «ناكر جميل» لأنه لا يعترف باحتلال ساعده على التخلص من الدكتاتور المستبد.

ولا شك في أن التعارض الضمني بين قراءة أميركية للتحرير وقراءة عراقية للاحتلال يفسر إلى حد كبير السلوك المضطرب الذي يظهر يوميا في طريقة تعاطي قوات الاحتلال مع مختلف قطاعات الشعب العراقي حتى تلك الفئة المحايدة التي تقوم بواجبها المهني.

«انجاز اسقاط صدام» تآكل مع الوقت. ومن كثرة تكراره وتذكير الشعب العراقي به ليل نهار تجوّف الشعار وأخذ يعطي مفعوله العكسي. فالعراق بمختلف قطاعاته مسرور لمثل هذا الحدث (سقوط نظام صدام) ولكنه بعد مرور سنة على الحرب غير سعيد بما تحقق من انجازات. فحتى الآن لاتزال الفوضى منتشرة والسرقات متفشية، وحتى أبسط حقوقه المعيشية التي تضمن كرامته وحياته العادية تراجعت... بل إن هناك حوادث قتل واجرام وتزوير وتهريب مخدرات واعتداءات على النساء والآمنين ظهرت بقوة ولم تكن موجودة في العهد السابق.

العراقيون الآن يعيشون فترة إحباط وبدأ الملل القاتل ينتشر في صفوفهم. وهناك غالبية عظمى منهم نسيت صدام ولم تعد تكترث بمصيره بعد أن شهدت هذه الأهوال والأعمال المفزعة والمخيفة. فما الفائدة من اسقاط صدام اذا كان ثمن الاسقاط ضرب الأمن والاستقرار وأخيرا منع الصحافيين من مزاولة عملهم؟ وما الفائدة من اعتقال صدام وحرمان الناس من مشاهدة التحقيق معه ومحاكمته علنا أمام جمهور تضرر من سياسته المستبدة على مدى ثلاثة عقود؟ وأيضاَ ما الفائدة من تسوير السياج حول صدام، وهدم الدولة وقطع أرزاق الناس وأعناقهم؟ فإلى هذا الحد هو ثمن صدام. وهل إنه يساوي وحده الدولة كلها وحقوق ومطالب وطموحات الشعب العراقي من جنوبه الى شماله؟

مشهد انسحاب الصحافيين من مؤتمر باول في بغداد في مناسبة الذكرى الأولى للحرب يكثف الحال التي وصلت اليها مختلف قطاعات الشعب العراقي. فالحال سيئة، باستثناء إلقاء القبض على صدام. ولكن مثل هذا «الانجاز» بدأ يتبخر وخصوصا أنه لم يكن موضوعا على قائمة الأهداف الأميركية.

مشهد الانسحاب انتهى ولكن الحقائق لن تنتهي. وأول الحقائق أن الادارة الأميركية كذبت في بداية الحرب ولابد أنها ستكذب في نهايتها. فمن يكذب أولا يكذب أخيرا. فالحرب لم تكن من أجل اسقاط صدام بل من أجل اسقاط العراق. وهذا ما حصل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 562 - السبت 20 مارس 2004م الموافق 28 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً