في الذكرى الأولى للحرب شنت المقاومة العراقية سلسلة هجمات عسكرية طاولت الكثير من الأهداف العشوائية امتدت من جنوب البلاد إلى وسطها وصولا إلى بغداد وبعض الشمال. الهجمات العشوائية كانت رسالة واضحة للاحتلال الأميركي. فالمقاومة تريد القول إن الولايات المتحدة ربحت الحرب لكنها لم تنتصر فيها، والربح مسألة مختلفة عن الانتصار؛ فالجانب الأول من السهل تحقيقه إذا وجدت دولة كبرى تريد كسر دولة صغيرة، أما الجانب الثاني من المعادلة فهو الصعب لأنه يقتضي كسر إرادة شعب وهزيمته نفسيا وثقافيا وسياسيا. هذا لم يحصل حتى الآن، والدليل تلك السلسلة من الهجمات العشوائية التي ضربت مواقع منتشرة من الجنوب إلى الوسط والشمال.
الذكرى الأولى للحرب مناسبة للتفكير. لماذا وقعت؟ وما الأهداف التي أرادت تحقيقها؟ وماذا حققت من أهداف؟ الأسئلة الثلاثة تفتح الباب على جملة أجوبة متضاربة ولكنها تشير إلى اتجاه واحد وهو أن الحرب فشلت. فالحرب كانت فاشلة في أسبابها (الذرائع) وفي نتائجها (الأهداف) ولكنها على رغم ذلك لاتزال مستمرة لأن الأطراف المعنية بها مباشرة لم تعترف بالهزيمة حتى الآن.
وفي انتظار الاعتراف بالهزيمة - وهو أمر محتمل حصوله بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل - لابد من الإشارة إلى معادلة بسيطة وهي: أن أميركا ربحت العراق وخسرت العالم. خسرت صدقيتها المشكوك فيها أصلا وخسرت سمعتها المشوهة أصلا. فالحرب زادت من الشكوك في صدقية واشنطن الدولية وعمقت الجروح وأثارت السؤال الذي ظهر بقوة خلال حروبها العدوانية في جنوب شرقي آسيا (فيتنام، كمبوديا، ولاوس) في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
أميركا فشلت إذا وبقي على الرئيس جورج بوش أن يعلن النبأ بعد انتخابات نوفمبر، وهو نبأ لم يعد مستبعدا. إعلان النبأ يعني ببساطة أن أميركا خسرت العالم ولم تكسب العراق. وهذا يعتبر في المقاييس السياسية أكبر فشل عرفته إدارة أميركية في البيت الأبيض منذ فيتنام.
إنها مسألة شهور وما أظهرته الانتخابات الإسبانية من نتائج سياسية ليس مستبعدا أن يتكرر في أميركا وبريطانيا. الحرب فشلت وبالتالي لابد أن تفشل الإدارات التي أدارت الحرب وأصرت عليها على رغم أنف العالم وضد الأمم المتحدة ومجلس الأمن. ذهبت أميركا إلى الحرب ورفضت الاستماع إلى الاحتجاجات وصيحات الملايين من البشر والتظاهرات المليونية التي شهدتها عواصم العالم ومدنه. آنذاك كانت «كتلة الشر» في البنتاغون تعيش لحظات غضب ونشوة. وكانت مثل صدام حسين ترفض النظر ولا تستمع إلا لنفسها ولا تستشير إلا من يوافق رأيها. فكانت الحرب وربحها أشرار البنتاغون في سرعة قياسية.
حتى الآن لم تفصح «كتلة الشر» الأسباب الحقيقية للحرب. ففي كل فترة هناك مجموعة من الأقوال المتناقضة، وكلها تبين أنها غير صادقة وليست دقيقة. فالكلام عن أسلحة الدمار الشامل سقط ولم يسقط، والكلام عن تعامل النظام مع الارهاب سقط ولم يسقط، والكلام عن أن وضع العراق الآن أفضل من السابق لم يتأكد بعد، فالدلائل تشير إلى احتمال حصول كوارث بشرية في العراق في الفترة المقبلة.
إنها حرب فاشلة في أسبابها ومبرراتها وأهدافها ونتائجها والفوضى هي المنتصر الأساسي في العراق، كذلك ما تسميه واشنطن بـ «الارهاب». فالارهاب زاد ولم يتراجع، والارهاب انتشر بعد أن كان محاصرا في جبال وأودية في أفغانستان. وعدم الاستقرار الإقليمي في منطقة «الشرق الأوسط» دخل مرحلة تفكك العلاقات السابقة وبداية ظهور تيارات سياسية متطرفة تناسبها مثل هذه البلبلة العامة. فالمؤشرات تدل على أن الأحقاد تضخمت والكراهية للولايات المتحدة تفاقمت. فواشنطن فعلا ربحت معركة وخسرت حربها. فهي لم تنتصر في موقعة سياسية واحدة وكل ما ذكرته إدارة البيت الأبيض من انجازات يمكن وصفها بالأكاذيب. إنها حرب تأسست على كتلة من الأكاذيب ومن يكذب في أسباب الحرب يكذب أيضا في نتائجها.
خسارة الحرب لا تعني أن أميركا انهزمت. فالولايات المتحدة تدّعي أنها حققت انجازات والرئيس بوش دعا في خطاب ألقاه أمس الأول في قاعدة أميركية طهران ودمشق إلى قراءة ما يحصل في العراق. إنه كلام مجانين تطلقه حفنة من المغرورين إلا أنه من النوع الخطير. فالمجنون عندما يفقد سيطرته على نفسه يبدأ باطلاق النار في كل الاتجاهات. وهذه مشكلة أخرى
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 561 - الجمعة 19 مارس 2004م الموافق 27 محرم 1425هـ