ما أجملها من حكمة سطرها الكاتب الكبير مصطفى أمين «كل أخطاء الحرية أحسن ألف مرة من كل مزايا الاستبداد». تلك حكمة مازلنا نقرأها كل يوم أمام أي انجاز. وتلك هي المفارقة ما بين سنين قانون أمن الدولة حيث الاعتقال التعسفي والخوف واطلاق الأحكام والمحاكمات على التهمة والظنة وبين هذه الأيام التي نتنشق فيها عبق الحرية. كلما رأيت مبدعا كبيرا أو طفلا واعدا شكرت الله فقلت: القمع عقيم فعلا والحرية تنجب المبدعين. فخلال هذين العامين والنصف من عمر مشروع الاصلاح ومن الاستقرار السياسي اكتشف المجتمع البحريني الكثير الكثير من طاقاته المتنوعة كان أغلبها مطمورا تحت قبو القمع، ولكن الانفتاح السياسي - وان كان نسبيا - أسفر وكشف الكثير من الطاقات حتى على مستوى كرة القدم، وما يحققه اليوم منتخبنا البحريني من انجازات دليل بارز على ذلك. فقد كانت صورة عادل عباس وسيدمحمود جعفر وفرحة حسين بابا بعد تسجيله الهدف الثاني في مرمى الإمارات جزءا من المشهد السياسي المستقر.
ما نعيشه اليوم من صحافة حرة ومن هامش آخذ في الاتساع دليل آخر فبالامس كان الموظفون في الدولة يشغلون معظم الصفحات في الصحف والمجلات، أما اليوم فنجد التغيير الواضح في ابداعات الكثير من الصحافيين والرسامين والمحققين، وأصبحت الصحافة تناقش الكثير من المحرمات السياسية وتغطي مقابلات لرأي المسئولين، وللوزير وللرأي الآخر قبال الوزير وهكذا. وعلى مستوى الشعائر الحسينية قام الاعلام البحريني بتغطية لا بأس بها في ذلك. ونتيجة لغياب القمع شهدنا ابداعات الشباب في عاشوراء الحسين وصورا حضارية لذلك كالمراسم الحسينية والخيام المليئة بالرسومات الابداعية واكتشفنا اطفالا فنانين مبدعين.
تخرج من المرسم الحسيني الجميل في المنامة لتستقر في مرسم آخر لفنان بحريني كبير ثم لتستقر في غرفة شبابية توصلك بالعالم كأنك في قناة فضائية وهكذا.
التغيير الذي حدث في القضاء البحريني وان كان جزئيا فإنه مؤشر يدل على التصحيح، واشهار الاتحاد العمالي، وفتح الجمعيات الى ان نصل الى ترسيخ قانون الاحزاب وهكذا. هذه جاءت بسبب الحرية التي نعيشها، ويكفينا فخرا اننا الدولة العربية الوحيدة التي لا يوجد في سجونها سجين سياسي واحد. هذه اضاءات جاءت بسبب الحرية فلو لم تكن إرادة الشعب متصلة بقناعة وإرادة الملك لما حدث هذا التغيير. ما أريد قوله هو اننا اذا عملنا على استثمار ما هو موجود وعملنا على توسيع الحريات بحكمة وذكاء سياسي وحس وطني صادق وباساليب سلمية وبخطاب موزون فسنحقق الكثير من الانجازات.
ان نعمة الأمان نعمة كبرى يجب استثمارها لانتاج الابداع. نعم، كل حرية قد تسبب ارباكا هنا أو خطأ هناك ولكن اخطاءها تغتفر أمام ايجابياتها، ولو قسناها امام مزايا الاستبداد فسنجد المفارقة كبيرة. يبقى اننا أمام تحد كبير يتمثل في الشق الاقتصادي. فحالات الفقر، والبطالة تضغط على ضمير الشارع البحريني لذلك يجب ان تسعى الدولة لاستيعاب هذه المشكلات وذلك لا يكون إلا بترسيخ الشفافية ومحاربة الفساد المالي والإداري وهذا ما يدعو اليه المشروع الاصلاحي.
وفي هذا الشق يجب ان ندرك جيدا لعبة التوازنات. وعلى رغم ذلك بدأت المياه الراكدة تتحرك في بحيرة التأمينات والتقاعد وها هي تتحرك في بحيرة الأوقاف الجعفرية، وبدأت في التغيير ولو النسبي في القضاء البحريني. هذه المياه ما كانت لتتحرك في تلك الايام ولكنها تحركت اليوم. وفي ظل هذا العالم بدأت تضعف المركزيات وشخصنة المؤسسات. والعولمة السياسية على مساوئها إلا انها بدأت تشعر الدول المطلقة بالارباك وما هرولة احدى دول شمال افريقيا نحو أميركا إلا دليل على بدء صفارة الانذار لهبوب الرياح. لا أراهن كثيرا على الغرب فهو الذي تغاضى سنين عن الكيانات القمعية والشمولية في المنطقة، ولكن لعبة المصالح احيانا تلقي بعض الفتات الديمقراطي على شعوب المنطقة، والذكي من يستغل هذا الفتات مع ما يطالب به لينعم بالديمقراطية
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ