العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ

الضغوط الأميركية على ليبيا... وحدود «التراجع الوقائي»

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

إذا كان مؤتمر الشعب العام (البرلمان) الليبي الذي اختتم أعماله في مدينة سرت (معقل العقيد القذافي) في السادس من مارس/ آذار الجاري قد كرس التوجهات الانفتاحية بإقرار الموازنة واجراء تعديلات على الطاقم الذي سيقود هذه العملية اقتصاديا بالدرجة الأولى، وسياسيا بالدرجة الثانية، فإن حقيقة الوضع - خلافا لكل المظاهر الأخرى - لا يبدو أنه قد حسم داخليا بشكل نهائي. ذلك، في حين تؤكد مصادر أوروبية رفيعة المستوى أن النظام الليبي لايزال حذرا حيال نوايا الإدارة الأميركية تجاهه.

وعلى رغم الخطوات «التخفيفية» التي اعتمدتها الإدارة الاميركية تجاه ليبيا، منها رفع العراقيل امام امكان زيارة رعاياها لهذا البلد، واعطاء الضوء الأخضر لشركاتها النفطية لعودة تدريجية لنشاطاتها فيه، تبقى واشنطن على ترددها وحذرها. فالتصريح الذي أدلى به، الوزير المساعد لشئون الشرق الأوسط وشمال افريقيا ويليام بيرنز في السابع والعشرين من شهر فبراير/ شباط الماضي أمام الكونغرس، يعكس هذه الحالة. إذ ان المسئول الاميركي قال بوضوح تام: «إن سياسة الولايات المتحدة ستحدد وفقا للخطوات العملية التي سينتهجها هذا البلد، وليس على أساس الوعود المعطاة». من ناحية أخرى، ذهب مسئول آخر من المستوى نفسه رفض الكشف عن اسمه أبعد من ذلك بالقول إنه «في كل مرة يقوم العقيد القذافي بخطوة إلى الامام، نقدم له جزرة».

مطالب لن تنتهي

هذا النوع من المواقف بحسب الخبراء في السياسات الاميركية يعني أن التنازلات التي قدمت ولاتزال بالجملة من قبل النظام الليبي تبقى بعيدة عن تبييض صفحته بنظر أميركا، بمؤسساتها كافة، ذلك على رغم العبارات المشجعة الصادرة عن بعض الرموز المعتدلة لهذه الادارة مثل وزير الخارجية، كولن باول، إزاء هذه المواقف المتناقضة، يحاول العقيد القذافي أن يستشف طبيعة المرحلة المقبلة ويسعى إلى التحرك على أساسها، علما بأنه قد ذكر في احد لقاءاته الجانبية على هامش القمة الافريقية التي جرت مع رئيس دولة افريقية نفطية تربطه علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، أن نوايا إدارتها حياله شخصيا وحيال نظامه لا تبدو صافية؟ ملمحا للضغط الذي مارسته واشنطن على منظمي «الملتقى الاقتصادي العالمي» الذي عقد في دافوس، كي يرفضوا بدبلوماسية، مجيء ابنه سيف الاسلام وإلقاء كلمة أمام الحاضرين. ما دفع به إلى عدم إيفاد رئيس الحكومة شكري غانم، الذي كانت إدارة المنتدى قد لحظت مشاركته ومداخلته ضمن البرنامج.

لهذه الاسباب مجتمعة، يقوم الزعيم الليبي، بناء على نصائح وردته من اطراف داخلية موثوقة وجهات خارجية صديقة، بأن يوسع دائرة شركائه الغربيين؟ في حين يحاول على طريقته كسب الوقت حتى تاريخ إجراء الانتخابات الاميركية المقررة في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. فالقذافي يعتبر في قرارة نفسه أن وصول الديمقراطيين للسلطة سيخفف حتما من حجم الضغوط التي تمارس على نظامه. هذا ما يدركه بعض المقربين من البيت الأبيض الذين لفتوا أخيرا انتباه البريطانيين، الوسطاء الاساسيين مع ليبيا، إلى أن رهانا من هذا النوع يمكن أن تكون له عواقب وخيمة في هذا السياق، المحت مصادر مقربة من وزير الخارجية البريطاني جاك سترو، بأن إدارة بوش تعد لائحة طويلة بمطالب محددة ستقدمها قريبا إلى ليبيا.

وتتضمن هذه اللائحة، بحسب هذه المصادر، دخول ليبيا لاقتصاد السوق مع كل ما يتضمن ذلك من تبعات وشروط وتغييرات مثل: تطهير النظام المصرفي والمالي من الشوائب العالقة فيه، والتحرير الكامل للاقتصاد بما في ذلك التوحيد النهائي لسعر صرف الدينار، وإدخال مبدأ الشفافية في كل القطاعات وعلى المستويات كافة بهدف وضع حد للرشوة والفساد المتفشيين؟ وخصوصا تعديل قوانين الاستثمار العائدة لفتح قطاع الهيدروكربورات أمام الاستثمار الاجنبي. بمعنى آخر، امام الشركات النفطية الاميركية القادمة من ولاية تكساس تحديدا، وإعطاؤها الأولوية على حساب الشركات الموجودة الاخرى والتي استفادت من الغياب الطويل لهذه المؤسسات الاميركية بفعل الحصار.

ويرى المحللون أنه إذا كان الانتقال من صيغة الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الليبرالي هي مسألة صعبة بالنسبة إلى نظام معقد اساسا كالنظام الليبي، القائم على نظرية الجمع بين «الثروة والثورة»، فإن ما يطلبه الاميركيون من تنازلات إضافية ستزيد الأمور تعقيدا. فواشنطن لا تخفي مطالبتها لطرابلس الغرب بإجراء نقد ذاتي للأخطاء السابقة التي ارتكبتها، وفتح عدة ملفات مزعجة مثل: حقوق الإنسان، وكشف كل عمليات التصفية التي لحقت بالمعارضة، وسلوك طريق الديمقراطية والتعددية الحزبية. موضوعات من شأنها أن تربك «قائد الثورة الليبية»، كذلك مجموعة «الليبراليون الجدد»، الذين باتوا يحيطون به من كل جانب في هذه الحقبة بالذات. وتؤكد مراجع ليبية مسئولة تقف على مسافة واحدة من الانفتاح الحاصل و«النظرية العالمية الثالثة ومفهوم سلطة الشعب»، أن الاشهر المقبلة ستظهر قدرة المحور الجديد على حسم الأمور بشكل نهائي في مواجهة مختلف مراكز القوى داخل النظام، خصوصا اللجان الثورية وجزء من الجيش الذين لا يبدون حتى اللحظة استعدادا لتسهيل الانعطافة الجديدة.

فالاستفزازات التي سجلت طوال الشهرين الماضيين، ولاسيما في قضية صحيفة «الزحف الاخضر»، الناطقة بلسان اللجان الثورية والتي دعت لانتخاب القذافي رئيسا للجمهورية طالما أنه يقود من وراء الستار عملية «الاستسلام الوقائي»، إضافة إلى فرض اخراج محمد المصراتي من وزارة العدل - الذي فسرته بعض وسائل الاعلام بأنه انتصار لسيف الاسلام - الذي كان سبق وأعلن أن اللجان الثورية عليها ان تلتزم بقرارات القيادة وأن دورها لم يعد له ما يبرره. كذلك، فرض تعيين (الامين السابق للجنة الشعبية العامة واحد ابرز الحرس القديم) محمد الرزوق رجب على رأس الشركة العربية الليبية للاستثمار الخارجي (لانيكو)، الذراع المالية للنظام! كل هذه العناصر تدل على أن الأمر لم يحسم داخليا بعد على رغم التصريحات والجولات التي يقوم بها سيف الاسلام القذافي للعواصم الأوروبية في الفترة الأخيرة.

تنويع وصعوبات

إذا كان عدد كبير من المحللين السياسيين والاقتصاديين قد استنتجوا أن النظام الليبي قد انحاز اقتصاديا للأنكلو - ساكسونيين (الاميركيين - البريطانيين) على حساب الشركاء القدامى من أوروبيين وآسيويين، فإن الحقيقة هي شيء آخر. ذلك، لأن العقود التي اعطيت بشكل متتال من قبل طرابلس الغرب - ليس على صعيد قطاع النفط فحسب - لمختلف الشركات الاجنبية تؤكد اتجاه الحكم لتنويع الشراكات ومصادر الدخل على السواء عبر فتح عدد من القطاعات. لكن هذه المرحلة بالنسبة إلى رئيس الوزراء، شكري غانم. الذي أختير للإشراف على التحول الاقتصادي وإدخال الاقتصاد الليبي ضمن اقتصاد السوق في أوقات قياسية، تبدو شبه مستحيلة. لأنه لا يفي بتحفيز الشركات النفطية والغازية الدولية على المجيء إلى ليبيا التي خصصت 100 منطقة لاستخراج النفط وإنتاجه لكي يحصل التغيير في بنية الاقتصاد الموجه المتجذر منذ الأول من سبتمبر/ أيلول 1969.

مع ذلك، فإن الفريق الجديد المؤلف من وزراء ومستشارين وتكنوقراط، والمكلف بقيادة التحول المنشود قد نجح - خلافا للشائعات - بوضع خطة عمل تجعل من هذه التغييرات تسير ببطء لكان بشكل مؤكد. وتهدف الخطة هذه إلى خلق تبعية الاقتصاد الليبي حيال القطاع النفطي. فالسياسات المعتمدة في السنوات الأخيرة قد نجحت نسبيا في هذا المجال. والدليل على ذلك، تراجع نسبة هذه التبعية من 92 في المئة في العام 1991 إلى 83 في المئة في العام 2002.

على رغم هذا الواقع، يعتبر الخبراء أن سبب هذا التراجع يعود بالدرجة الأولى إلى التخوف، في حينه من تشديد العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة، خصوصا بعد دخول قانون «داماتو» (الذي تم التصويت عليه في العام 1992، والذي بموجبه تمنع أية شركة في العالم من استثمار اكثر من 40 مليون دولار في قطاع الهيدروكربورات في كل من إيران وليبيا). ما حدا بالحكومة الليبية لمضاعفة استثماراتها الداخلية في مجالي الزراعة والصناعات المتوسطة، ومن النقاط الملفتة الأخرى تنشيط القطاع الخاص، الذي كان حتى هذا التاريخ مهمشا، عبر تقديم التسهيلات المصرفية له، كذلك رخص الاستيراد مع التخفيف من حدة احتكار اللجان الشعبية للسوق المحلية عبر ما يسمى «بالمنشآت» و«التشاركات». وكان نتيجة هذا الانفتاح الاقتصادي - المحدود والمشروط - أن بدأت بعض القطاعات غير النفطية بالخروج من شرنقتها وجذب عدد من الاستثمارات.

فبغض النظر عن التصميم الظاهر لدى الحكومة الليبية ولدى محيط نجل العقيد القذافي، سيف الاسلام، بالذهاب إلى آخر الشوط في عملية التحول، إلا أن الزعيم لايزال مترددا. فمستشاروه المقربون لا يخفون هذا الواقع، إذ يجزمون بأنه لا يثق بنوايا الاميركيين حياله على رغم الضمانات المقدمة من البريطانيين، هذا يعني أنه من المهم أن يعود عن عدد من القرارات المتعلقة بالانفتاح ويطبقها مع المناخات التي يمكن أن تسود مستقبلا. هذا ما يفسر موقفه «التصالحي» والسوي مع جزء من قادة اللجان الثورية التي استفزته.

ويؤكد هذا الغموض أن القذافي لم ينجح حتى الآن بحسب الأمور على صعيد التوازنات الداخلية، قبلية وغيرها، وموازين القوى. كما لم يعد واثقا من أنه يحتل اليوم كل الساحة. لهذا السبب، ينبغي توقع المفاجآت، ففي اطار هذا النوع من الفن السياسي، اثبت معمر القذافي أنه استاذ حتى ولو كانت هوامش مناورته قد ضاقت كما هو حاصل في هذه المرحلة

العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً