أعلن مدير وكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي موافقة طهران على عمليات التفتيش التي تأجلت أخيرا بسبب الاختلاف على مواقف صدرت عن الوكالة بضغوط أميركية. وجاء الإعلان قبل 24 ساعة من لقاء البرادعي مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، وهو لقاء كان يتوقع أن تنتج عنه سلسلة التزامات تورط الوكالة في مشكلات تقنية مع إيران تستفيد منها واشنطن سياسيا لتمرير خطة شريرة تتطلع «البنتاغون» إلى تنفيذها.
إعلان البرادعي أجل معركة خططت واشنطن لها ولكنه وليس بالضرورة ألغى كل العناصر التي يمكن أن تلعب عليها إدارة البيت الأبيض لإعادة فتح الملف النووي من أبواب أخرى. فالإعلان هو تأجيل وليس إلغاء وهذا يتطلب من إيران المزيد من الانتباه في فترة يبدو فيها الوضع الدولي يدخل في مرحلة جديدة من خلط الأوراق. فأميركا تلقت صفعة قوية في إسبانيا بعد سقوط حليفها في الحرب على العراق. وهذا يعني أن إدارتها غاضبة وتبحث عن «كبش فداء» لرد الاعتبار في أسرع وقت وقبل شهور من موعد الانتخابات الرئاسية.
لاشك في أن إيران تدرك المخاطر الاستراتيجية على أمنها الوطني بعد انتشار القوات الأميركية في جبهتها الشرقية (أفغانستان) وجبهتها الغربية (العراق) وفي جبهتها الشمالية (الدول الواقعة على بحر قزوين). ولهذا تبدو أن سياستها الدبلوماسية السلمية ناجحة حتى الآن في مختلف المقاييس إذ استطاعت نزع كل الذرائع التي لصقتها بها واشنطن في السنوات الثلاث الأخيرة بدءا من القاء بعض مسئوليات «الارهاب» عليها وانتهاء بدعم «طالبان» وعناصر «القاعدة». فكل هذه الاتهامات كانت مضحكة وأثارت سخرية الكثير من الدبلوماسيين المتابعين للملف الإيراني.
مشكلة طهران مع واشنطن لا تختلف كثيرا عن مشكلات العواصم العربية مع البيت الأبيض، فهي متهمة مثل الدول العربية بسبب الدور الإسرائيلي (الصهيوني) المحرض لإدارة جورج بوش والمستفيد الأول من جنون العظمة الذي أصيبت به الولايات المتحدة. فكل ما يضر العرب وإيران وتركيا وباكستان يفيد تل أبيب ويعطيها المزيد من القوة والتفوق على مختلف جيرانها العرب والمسلمين. إنها حلقة دائرية تمتد من شرق الهند إلى المغرب ويطلق عليها الآن «الشرق الأوسط الكبير». وتحت سقف مشروع «الشرق الأوسط الكبير» أخذت واشنطن تساوي في شروطها ومطالبها كل الدول على درجة واحدة وهي درجة لا تميز بين الأصدقاء والأعداء لأن الهدف في النهاية ليس إصلاح العلاقات بقدر ما هو تمرير استراتيجية حربية تخدم في النهاية شركات الاحتكار والنفط والصناعات الحربية... وهذا ما يريح «إسرائيل» لأنه يرفع عن كاهلها سلسلة مهمات تعجز هي عن تنفيذها.
إيران إذا من الدول المطلوبة أميركيا لحسابات كثيرة منها الموقع الاستراتيجي والثروة النفطية ووجودها كفاصل سياسي - جغرافي بين الخليج وروسيا. هذه الخصائص أعطت إيران أهمية استثنائية في معادلة الصراع الدولي - الإقليمي وفي سياق التنافس الكبير على خط «طريق الحرير» وبحر قزوين. فالصراع القديم على تلك الطرق التجارية من آسيا (الصين والهند) إلى أوروبا أعيد انتاجه في العقود الثلاثة الأخيرة وقبل أن ينهار الاتحاد السوفياتي. فهذا الطريق التجاري هو الأخطر في المعادلات الدولية القديمة ولايزال يعتبر الأخطر في التوازنات الحديثة على رغم تغير وسائل النقل والمواصلات والاتصالات. فالعالم تغير وأهمية الطريق لم تتغير. ففي السابق كانت تنقل عليه المنتوجات الآسيوية والتوابل وغيرها إلى أوروبا والآن ينقل النفط والغاز عن طريق الأنابيب والبواخر.
المنطقة العربية - المسلمة ضحية ثرواتها وموقعها الجغرافي - الاستراتيجي كدائرة تتوسط العالم بين شرقه وغربه. وهذا يفسر إلى حد كبير هذا الكم من الحقد على العرب والكراهية للإسلام والمسلمين. وإيران وتركيا وباكستان وأفغانستان والجمهوريات المسلمة في آسيا الوسطى هي أجزاء حيوية من هذه المنطقة.
مناسبة هذا التحليل هو إعادة التذكير بأن الولايات المتحدة لن تتوقف عن ضغوطها ومناوراتها وأكاذيبها... وهذا يتطلب المزيد من الانتباه في عدم استدراج طهران إلى معركة لم تستعد لها. كذلك يتطلب الانتباه إلى مزيد من تحصين المواقف الداخلية بسلسلة علاقات جيدة مع دول الجوار العربية وكذلك مع روسيا. فروسيا هي الدولة الكبرى التي تستطيع تنظيم علاقات مميزة مع طهران في وقت تستعد موسكو لانطلاقة جديدة بعد صحوة سياسية أخذت تظهر اثر بدء خروجها من صدمة سقوط الاتحاد السوفياتي.
إيران مطلوب رأسها وإعلان البرادعي في واشنطن أجّل المعركة ولكنه لم ينزع عناصرها المتفجرة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ