من الامور التي تثير التفكير هي نوعية الخطاب السياسي المتبع من قبل بعض الجهات الرسمية وبعض الجهات الاهلية. والحديث الحالي عن موضوع «الشرق الاوسط الكبير» والسعي الاميركي إلى «دمقرطة» الانظمة يوضح الفرق بين خطابين يوجدان في اوساطنا.
بعض العاملين في الحقل الاجتماعي والسياسي والأهلي يستخدمون خطابا هو أقرب إلى افلام «الكارتون» منه إلى الواقع. فالحديث عن رغبة أميركا في الدفع باتجاه الديمقراطية يتحول إلى احلام مطاطية يخيل لمن يسمعها وكأن الدنيا تتحرك تماما كما تتحرك أفلام الكارتون. فتلك الافلام بامكانها ان تحرق الدنيا وتفجر الارض ومن عليها ثم تعيد كل شيء إلى ما كان عليه في ثوان معدودة. وتلك الافلام الكارتونية تسهل الامور إلى الدرجة التي يمكن لشخص ما ان يذهب إلى احد الكواكب البعيدة بملايين السنين الضوئية يعود إلى الارض خلال دقائق لاتمام القصة التي يستمتع بمشاهدتها الاطفال.
الفرق بين أفلام الكارتون والواقع كبير جدا، ولذلك لا يمكن تطبيق هذا على ذاك، فالكارتون يبقى «كارتونا» والحياة الواقعية تبقى حياة «واقعية»، ولا يمكن بأي حال ان نتحدث عن شئوننا العامة وكأن القضية «فرجة» او «تسلية» او «امنيات مطاطية» تتحرك يمنة ويسرة وشمالا وجنوبا من دون حدود ومن دون ظروف موضوعية ومن دون رؤية مستمدة من الواقع.
واذا كان المشهد السياسي في بعض جوانبه يتسم بالخطاب «الكارتوني» فإن الجانب الآخر يتسم «بالجمود» وربما التحجر الذي يأبى ان ينتقل من العصر الحجري إلى عصر المعرفة. فالتحجر سمة لبعض خطابات الرسميين الذين يفكرون في الأمس وعن مجدهم وعزتهم عندما لم تكن تواجههم تحديات مثيلة لتحديات اليوم. والخطاب المتحجر يتلكأ ويرفض دعوات الاصلاح الداخلي، ولكن عندما تلوّح اميركا بالاصلاح من الخارج تراه يلجأ إلى الحديث عن رفض اي اصلاح لا يأتي من الداخل وكأنه كان يسمح لاصلاحات الداخل ان تتنفس وتنتعش وتنمو.
يمكن ان يشاهد المرء الخطابين يتمثلان في كثير من قضايا الساحة، بين من يطلق لسانه وقلمه ويقول ويكتب ما يشاء وما استطاع قوله وكتابته وينشره عبر الخطابة او البيانات او المواقع الالكترونية او اي منبر آخر يتواصل من خلاله مع الآخرين. الدنيا بسيطة جدا لاصحاب الخطاب الكارتوني، بل ان الدنيا مستعدة للاحتراق ثم الاعتدال والاصلاح، ثم الاشتعال وبعد ثوان الهدوء، ثم الثورة وبعد ذلك الحوار، ثم المطالبة باكبر شيء، وبعد ذلك مباشرة المطالبة باصغر الاشياء، ثم الاعلان عن الاستعداد لتحريك الشارع لاي شيء كان، وبعد ذلك الاعلان أن الخيار السلمي هو الخيار الوحيد... الخ.
المشروع الاصلاحي - سواء كان في البحرين أو غير البحرين - يعني في مقدمة ما يعني سيطرة العقل والواقع على الخيال والامال التي تنتجها قلوب متألمة. فالخيال يمكن ان يصاب به الحاكم ويمكن ان يصاب به المحكوم ولكن النتيجة واحدة، وهي خسران الجميع لما ينوون الحصول عليه. اما العقلنة ومد الجسور عبر الحوار فيوفر طريقا عمليا لحياة تحفظ الحقوق ولا تضيع الواجبات، وهذا الامر يحتاج إلى دراية اكثر شمولا وإرادة صلبة تنظر إلى الحياة على اساس واقعي وليس «كارتونيا»
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ