العدد 559 - الأربعاء 17 مارس 2004م الموافق 25 محرم 1425هـ

صورة الطفل في دراما الكبار

الرياض - محمد السحيمي 

تحديث: 12 مايو 2017

لكي نحدد صورة الطفل في دراما الكبار فلابد من أن نطرح سؤالا عريضا هو: كيف ينظر الإنسان العربي للطفل؟ وبصيغة أخرى: ما هي صورة الطفل في الثقافة العربية؟

هذا السؤال يحتاج إلى بحث مستقل للإحاطة به، ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى مفتاح الإجابة وهو المصطلحات والمسميات الدارجة التي يطلقها العرب على الطفل، استنادا إلى أن اللغة هي صوت الفكر، ولسانه الذي هو حصانه، وتسليما بالتعريف الديكارتي للفكر وهو أنه مزيج متجانس من العمليات العقلية والوجدانية، فهذا المزيج ليس إلا الثقافة بمعناها الواسع، فما الثقافة إلا افراز عقلي وجداني في النهاية، وتشكل الدراما أحد مظاهر هذا الافراز الثقافي، وبالتالي فلن تخرج عن التصور الثقافي للطفل كما سنرى بعد قليل. فماذا يطلق العرب على الطفل؟

جاء في المعاجم وأشهرها (لسان العرب) لابن منظور:

- طفل: تعني الصغير من كل المخلوقات، وتعني أيضا الليل.

- بزر وجمعها بزورة وبزران في اللغة الحجازية: وتعني البذور والتوابل.

- عيِّل وجمعها عيال في اللغة المصرية: وهي مشتقة من العيلة أي الفقر والحاجة والضعف، أو من العويل وهو البكاء.

- ورع وجمعها ورعان في اللغة البدوية: وتعني الأحمق والجاهل والضعيف عقلا وجسما.

- وغد وجمعها وغدان في لهجة شمال الجزيرة العربية: وتعني أيضا الأحمق والضعيف عقلا وجسما.

- كما لا يخفى عليكم أن هناك مجتمعات عربية تسمي الطفل: جاهلا هكذا بكل وضوح.

من هذا الاستعراض السريع يمكننا أن نحدد صورة الطفل في الثقافة العربية وهي لا تخرج عن ضعف الجسم والعقل وعدم النضج كما توحي كلمة (البذور) والغموض وعدم الوضوح كما يوحي الليل الذي هو أحد معاني كلمة (طفل). وهذه الصورة إنما رسمها الفكر العربي نسبة إلى صورة الرجل الناضج الكامل، فالسؤال الذي يشغل أذهاننا آباء ومربين وعلماء اجتماع وكتابا ومنتجي دراما هو: كيف نصل بالطفل إلى الصورة الكاملة؟ بمعنى: ماذا نريد نحن الكبار للطفل أن يكون؟ بينما السؤال المنتج حقا والأهم هو: ماذا يريد الطفل في هذه المرحلة؟ وكيف ينظر هو - لا نحن - إلى العالم من حوله؟ والفرق بين السؤالين خطير جدا في عملية الإبداع والتربية على حد سواء، ولتوضيحه أسوق مثالا لا يكاد يسلم منه أحد منا وهو أننا في مرحلة الرضاعة نناغي الطفل بتكسير الكلام وترقيق الحروف، وهذا على رغم استمتاعنا نحن به فإنه لا يخدم الطفل في عملية بناء شخصيته إذ يؤكد علماء النمو أن الطفل يريد في هذه المرحلة أن نكلمه كما نكلم الكبار لكي يتعلم اللغة سليمة وينمو فكريا بسرعة لا توفرها متعتنا نحن بالمناغاة.

والآن نسأل السؤال الذي يشكل صلب المحور الذي أتحدث فيه: ما الصورة التي قدمتها دراما الكبار للطفل؟

بداية أكرر أن الدراما لم تتخلص من النظرة الفكرية التي طبعت نظرة الإنسان العربية للطفل، ولا تلام الدراما في ذلك فالنظرة الفكرية المترسبة قرونا طويلة لا يمكن أن ينسفها فيلم أو مسلسلة مهما بلغت من البراعة.

وقد عملت الدراما في تعاملها مع الطفل في مسارين:

الأول: توظيف الدراما لشخصية الطفل.

الثاني: تقديم صورة للطفل.

ولتوضيح هذين المسارين أستشهد بفيلمين شهيرين لأنور وجدي، هما (دهب، وفيروز هانم). ففي قصة فيلم (دهب) قدم أنور وجدي صورة للطفل في شخصية (دهب) تلك الطفلة التي حاول والدها (الباشا) أن يتخلص منها لأنها ابنته من (الشغالة)، فتوقعها الأقدار في يد الفنان الفقير (أنور وجدي) الذي يقوم بتربيتها فتخرج فنانة موهوبة تصبح غنية في مدة وجيزة فيتحرك والدها بوسوسة من زوجته لاستعادتها طمعا فيما نالته من ثروة بعد أن أفلس. لتصل القصة إلى ذروتها بطرح سؤال في غاية الأهمية: من الأولى بهذه الطفلة: الفنان الذي رباها من دون أن يعرفها؟ أم الأب الذي عدها عارا لابد من التخلص منه وجاء الآن ليقطفها ثمرة يانعة؟

والصورة التي قدمها الفيلم عن الطفل هي صورة: البنت الموهوبة المعجزة كما وصفها تتر مقدمة الفيلم، وفي وصفها بالمعجزة ما لا يخفى من تأثير الصورة الثقافية عن الطفل الضعيف عقلا وجسما، ففيروز معجزة خرقت تلك الصورة، والمعجزة نادرة الحدوث.

أما في فيلم (فيروز هانم) فكان هناك توظيف واستثمار لشخصية الطفلة (فيروز). ونذكر بقصة الفيلم: فيروز هانم طفلة يتيمة لأسرة غنية، كانت تعيش مغفلة تحت تأثير الوصي الجشع حتى تقع - وهي الطفلة - في غرام الطفل (حسين) ابن السباك الفقير، فتتعلم كيف تصرف شيئا من ثروتها في تعليمه مثلا، ما يثير خوف الوصي فيحاول التخلص من حسين بتوريطه في عملية سرقة تنتهي بكشف كيد الوصي والتخلص من شره.

إن قراءة سريعة لسيناريو الفيلم تكشف أن الفيلم كان من الكبار وللكبار، وكان الطبيعي أن تمثل دور (فيروز هانم) أي ممثلة كبيرة كفاتن حمامة أو شادية، وكان يمكن أن يقوم بدور (حسين) أنور وجدي - بعد عمليات مكياج معقدة لتصغيره - ولكنه رأى فيما يبدو أن الأربح ماديا والأكثر إثارة وإبهارا هو أن يقحم الطفلة المعجزة (فيروز) والطفل الموهوب، ويكتفي هو بدور (المنتج). وباختصار فإن الأفلام التي قدمت (فيروز) لم تقدم صورة مختلفة عن التصور الثقافي العربي للطفل بما فيها (دهب) الذي قدمها على أنها معجزة مع أن الواقع يؤكد أن في أطفالنا مئات الفيروزات. وحتى هذه الطفلة الموهوبة أحرقتها تلك الأفلام، فاعتزلت فيروز التمثيل مبكرا لأنها - والفضل لدراما الكبار - لم تستطع أن تتخلص من كركتر الطفلة المعجزة التي أثارت ومازالت تثير إعجاب الكبار.

وتستمر الدراما العربية في المسار الأول: توظيف شخصية الطفل، حتى وصلت مستوى راقيا في التوظيف الرمزي كما في فيلم (كفرون) لدريد لحام قصة وإخراجا، وملخص القصة: ودود رجل بسيط يعمل فراشا متعدد الوظائف في مدرسة ابتدائية ويكدح ليتزوج من خطيبته ولكن هناك مشكلة تطارده دون دخل له في خلقها، وهي مطالبة أمه الملحة بأن يثأر لوالده الذي تتهم أحد أبناء القرية بدمه، وتصر الأم على أنه لن يتزوج من حبيبته قبل أن يغسل العار عنه وعن العائلة، ثم تتعقد المشكلة فيقتل المتهم بقتل والده فتحوم الشبهات حوله ولا ينقذه إلا الأولاد العفاريت أبناء المدرسة! فإذا كانت الأم العجوز تمثل الماضي البغيض، وودود البسيط يمثل الحاضر الفقير المعقد فإن الأطفال يمثلون المستقبل البريء المشرق الذي يجب أن يعود إليه ودود (الحاضر) ليتخلص من الماضي بأغلاله الثقيلة. أما على المسار الثاني فلم يقدم (كفرون) صورة تختلف عن الصورة السائدة (وهي الولد العفريت اللهلوب المعجزة). وتتضح هيمنة السؤال الذي ذكرته سابقا وهو: ماذا نريد نحن الكبار من الأطفال؟ على دريد لحام/ المؤلف والمخرج حتى وهو يقدم للفيلم ويحكي معاناته مع أولئك (العفاريت)!!

أما يوميات (طاش ماطاش) السعودية فقد حاولت العمل على المسارين معا: فقدمت صورة الطفل الغبي/ الجبان/ المتين (الدب) في شخص الفنان (فهد الحيان). وللوهلة الأولى قد تتوقع أن طاش ماطاش تخلصت من سؤال الكبار: ماذا نريد أن يكون الطفل؟ فقدمت صورة واقعية لبعض الأطفال المختلفين عن الأذكياء والطيبين والشجعان وغيرها من الصفات التي يريدها الكبار في الصغار، ولكنك حين تمعن النظر وتربط هذه الصور بالخط الرئيسي لطاش ماطاش وهو (الاضحاك) تجد أنها لم تضف جديدا إلا في مسار التوظيف، أي طاش ماطاش وظفت صورة الطفل للإضحاك، فجاءت الصفات المضحكة في الأطفال ليضحك الكبار والصغار. ولمزيد من الإضحاك قام فنانون كبار كفهد الحيان وعبدالله السناني بأدوار الأطفال، بل قام العملاقان عبدالله وناصر بدور الأطفال في حلقة شهيرة هي في نظري من علامات طاش ماطاش المهمة.

وخلاصة الورقة أن الدراما العربية للكبار لم تتخلص من النظرة الثقافية العريقة التي تلون الفكر العربي نحو الطفل، والتي رسخت السطحية في التعامل مع الأطفال، وأوهمتنا طويلا بأن مرحلة الطفولة مرحلة لا أهمية لها ولا خطر يتوعد المجتمع من إهمالها أو المرور بها مرور الكرام، فالطفل سيكبر غدا ويتعلم وينسى! ولكنني في الوقت نفسه لا ألوم الدراما والقائمين عليها فهم أفراد وكل ما يقدمونه لا يعدو أن يكون اجتهادا فرديا قد يصيب أحيانا وقد لا يكون التوفيق حليفه أحيانا أخرى، وخير مثال فيلما (دهب) و(فيروز) فالأول في نظري كان موفقا في توظيف شخصية الطفل وفي تقديم صورة الطفل (المعجزة) بينما لم يوفق الثاني، وهما للفنان المجتهد نفسه هو أنور وجدي.

فبدل أن نلوم الدراما والقائمين عليها علينا أن ندرك ونوصل أصواتنا لمن يدرك أن الثقافة - والتعامل مع الطفولة جزء منها - يجب أن تحظى بعناية مؤسساتية لا فردية تحظى بالدعم اللامحدود والتخطيط المتأني بعيد المدى. أما تغيير النظرة الثقافية للطفل فإنها تبدأ بتغيير السؤال ليصبح: ماذا يريد الطفل؟ وماذا يحتاج في هذه المرحلة؟ وهو سؤال يستحق أن نفني أعمارنا في محاولة استيعابه





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً