مرة أخرى أعود إلى الكتابة عن الكعكة التي يتم تحضيرها في مجلس النواب الموقر، لأن الموضوع لا يحتمل التلاعب به أو تجاهله أو الضحك على الذقون. فنحن امام عملية اقتطاع 800 ألف دينار على الأقل من قوت الفقراء والمساكين في هذا البلد، لتنفق على مجموعة من «نواب» هذا الشعب الصبور، ليحصد كل سيد منهم في يوم واحد ما يكسبه العامل في شهر ونصف الشهر. وإذا كان السادة النواب قرروا لأنفسهم «امتيازات» لا يشاركهم فيها أحد، فإن من واجبنا ان نناقشهم ونحاسبهم، حفاظا على المال العام الذي يوجد له ألف مبذر ومتلاعب في هذا البلد ولا يوجد له عشرة من الحريصين عليه.
بيض النعام
وتجربتنا مع المجلس غير سارة للأسف الشديد، حين تم ابتلاع مبلغ عشرة الآلاف دينار كما تبلع الحيات بيض النعام. فالبعض أكل الكعكة وشرب عليها كأسا من اللبن الرائب البارد ونام قرير العين مطمئن الضمير. بينما أثار البعض الآخر زوبعة من الغبار من حوله للتغطية على عملية الابتلاع، فقال انه سيرد المبلغ من حيث أتى، وقال حزب ثالث انه سيتبرع بالمبلغ الى الصناديق الخيرية إبراء للذمة، ووعد بتشكيل لجنة لهذا الغرض، ولكن لا المبالغ ردت الى الشعب، ولا اللجنة شكلت، ولا الصناديق الخيرية تسلمت فلسا واحدا. فبيض النعام يستقر دائما في بطون الثعابين في هذا البلد المنكوب.
ولكي لا يضحكوا علينا مرة أخرى بمثل هذه الحيل غير الشرعية، ولأننا لسنا مغفلين، ولكي يبقى المال العام محفوظا، فاننا نذكرهم بأنه في حال استمرأوا اللعبة واستحْلوا الطبخة، وقبلوا هذه «البدعة» المشئومة، فلن يكون لهم بعد اليوم الحق في مساءلة وزير، ولا استدعاء مدير، ولا مراجعة حسابات أية مؤسسة رسمية شهدت تلاعبات في المال العام، حتى وان بلغت الخسائر والتلاعبات الملايين من أموال الشعب كما في التأمينات.
وليتذكر السادة النواب أن ليس من حقهم ان يقرروا لأنفسهم اقتطاع مثل هذه المبالغ الطائلة من اموال الشعب من دون رقيب أو حسيب، تحت أي مبرر كان، كما انه ليس مقبولا شرعا ولا عقلا ان يفرض الأعضاء لانفسهم هذه «الاتاوة»، بفرض مبلغ 200 أو 300 دينار، لكل يوم سفر، وكأنهم ينزفون من بئر أموال هذا الشعب الفقير. وليعلم كل نائب يوافق على اقتطاع مثل هذه المبالغ انما يقتطعها من لحوم الأرامل والأيتام، وانه سيحاسب على هذه الأموال غدا حسابا عسيرا، ان كان يؤمن بالله واليوم الآخر.
العكاز المطلوب
إن مجلس النواب اليوم امام مفترق طرق أخلاقي كبير، فاما ان يثبت اعضاؤه نزاهتهم واخلاصهم وتعففهم عن المال العام وحرصهم على قضايا هذا الشعب، واما ان يغامروا بالتهام هذه الكعكة المنتنة، وما يعنيه ذلك من وضع أنفسهم موضع التهمة وما يلحق بهم من عار. وما اشد صدمة الناس بهم حين يكتشفون ان من ارادوه لهم عونا تحول بين ليلة وضحاها الى فرعون.
وعلى هذا فان ما سيتخذه النواب اليوم من موقف سيحدد درجة الثقة بهم وصدقيتهم أمام الناس، الذين لم يعودوا ينخدعون بطرح قضايا النقاب والاختلاط في الجامعة في الوقت الذي يرون أرغفتهم تسرق من أفواه أطفالهم، وتترك قضاياهم المصيرية معلقة على رفوف الاهمال.
واذا لم يراجعوا انفسهم ويستمعوا الى اقوال الناصحين بالتخلي عن «وسخ الدنيا» هذا، والتحلي بالنزاهة والتعفف عن المال العام، فاننا نذكر من يصر على التهام بيض النعام بما قاله غوار الطوشة لفطوم حيص بيص في آخر حلقات مسلسل «حارة كل من ايده إله» وهو يحذرها من سوء المنقلب، حين يحدودب ظهرها ويبيضُّ شعرها:
«غمضي عين وفتحي عين، راح تمشي على عكازين»، هذا ان حصل اصحابنا على عكاز واحد بعد اليوم. فشعبٌ تعيش بعض عوائله على الخبز والعدس، ويعيش بعض فقرائه على الماء والبصل في شهر رمضان، كيف يبيح «نوابه» لأنفسهم التمتع بصرف مبلغ 300 دينار في اليوم الواحد أو اضافته الى الرصيد في المصرف، من دون ان تطرف لهم عين أو يستيقظ لهم ضمير؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 558 - الثلثاء 16 مارس 2004م الموافق 24 محرم 1425هـ