من بين المفاهيم المهمة في تكوين شخصية المجتمع مفهوم المواطنة. والمفهوم وصل الينا بصورته الحديثة في مطلع القرن العشرين ولكنه تغلغل في نفوسنا بصورة جزئية وربما مقلوبة. فـ «المواطن» ارتبط بمفهوم «الوطن» وبـ «الموت من أجل الوطن». وهذا ليس خطأ بحد ذاته ولكن التركيز على ذلك وتوجيه الأنظار الى موضوع «الموت» واعتباره المقياس الأفضل للمواطنة. «الموت» والسعي إليه تحت عناوين مختلفة وباسم الوطن يعطي صورة مقلوبة (في كثير من الأحيان) لمفهوم الحياة.
الفداء من أجل المبدأ والوطن قيمة عليا وشرف لمن يستطيع الحصول عليه ولكن هذا لا يعني أن الدافعية الى المواطنة الصحيحة هي الموت، اذ ان هناك وجها آخر (وأهم) للمواطنة وهو «الحياة بصورة جيدة» من أجل اسعاد الآخرين، وذلك من خلال بذل الجهد والمشاركة في رفع المستوى العام لحياة الناس. وفي تراثنا لدينا: «مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء»، والعلماء تعني العلماء الذين ينفعون الناس بعلمهم سواء كان هذا العلم دينيا أو دنيويا (فصل علم الدين عن علم الدنيا لم يكن موجودا في صدر الاسلام، والفصل حدث قبل عدة قرون فقط).
لقد استوردت النخبة العربية مفهوم المواطنة الخاطئة الينا ونشرته بقوة بعد الحرب العالمية الأولى، وهي الفترة التي انتشرت فيها الأفكار الفاشستية والنازية والمتطرفة. وهذه الأفكار تدعو الى كراهية «الغير» وهو ما حصل في الدول الأوروبية وأدى الى «إحراق» العناصر التي لا تتطابق مواصفاتها مع المواصفات النقية (كما حدث في المانيا مثلا).
وتورطنا نحن العرب في هذا المفهوم، اذ ان لدينا في بلداننا العربية - الاسلامية عناصر عربية وغير عربية وتتنوع بين الكردية والتركمانية والفارسية والبربرية والافريقية وغيرها... وهؤلاء جميعهم كانوا يعيشون معنا اخوة في الدين ان كانوا مسلمين، أو اخوة في الانسانية ان كانوا غير مسلمين.
ليس التورط بهذا المفهوم في هذا الجانب فحسب، ولكن التورط كان في الغاء جميع مظاهر السعادة الانسانية والتركيز على «الموت» بدلا من «الحياة». وتأكد هذا المفهوم اكثر بعد ضياع فلسطين على أيدي حكام العرب، وارتفع حينها شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». وعلى أساس هذا الشعار تم تعليق الحياة الاعتيادية وأعلنت الطوارئ وقيل للمواطن في البلدان العربية ان عليه ان يضحي بكل شيء من أجل فلسطين (وفداء للوطن). مضت العقود وفلسطين بقيت تحت الاحتلال وبقي المواطن محروما من كل شيء اعتيادي يتمتع به المواطنون الآخرون في البلدان الأخرى (من حقوق انسانية ومشاركة حقيقية في الشأن العام).
المواطنة لا تعني ارسال الناس إلى الموت كما فعل صدام حسين ويفعل غيره، والمواطنة لا تعني الغاء حقوق الناس تحت عنوان الطوارئ، والمواطنة لا تعني التضحية بكل شيء في هذه الحياة الدنيا لأن هناك قضية عالقة لم يتم حلها. المواطنة من اجل الحياة توازي فداء المبادئ والاوطان، وهي تعني التزامات على المرء تجاه مجتمعه، ومن أهم تلك الالتزامات هي بذل الجهود (كما ونوعا) لتطوير مستوى المعيشة والحياة بصورة أفضل لكل من يعيش على ارض مشتركة تسمى وطنا.
التركيز الأساسي للمواطنة ينبغي أن يكون على الحياة وليس على الموت، والتركيز الأهم يجب أن يكون على سير الأمور بصورة اعتيادية من دون الحاجة الى طوارئ. فالأموال التي تصرف على الطوارئ وعلى قوى الأمن أهلكت ثروات شعوبنا وأفقرتها وحولتنا من أفضل أمة أخرجت للناس، إلى أمة تعيش أسوأ الظروف ولا ترى إلا أسوأ النتائج لحياتها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 558 - الثلثاء 16 مارس 2004م الموافق 24 محرم 1425هـ