العدد 557 - الإثنين 15 مارس 2004م الموافق 23 محرم 1425هـ

هل تتمكن الدول العربية من احتواء ضغوط الإصلاح؟

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

قرار حكيم اتخذته الحكومات العربية عندما أدرجت المبادرات الأميركية والأوروبية الخاصة بإعادة تشكيل المنطقة ضمن جدول أعمال القمة التي ستستضيفها تونس نهاية مارس/ آذار الجاري. إذ لم يعد من المنطقي تجاهل هذه الرغبة الدولية المعلنة والمتزايدة في تغيير الأوضاع العربية، بعد كل الذي حدث منذ 11 سبتمبر/ أيلول، وصولا إلى سقوط بغداد حربا وسقوط طرابلس ليبيا سلما. وبما أن جزءا من هذا الجدل الدائر عن المنطقة يتعلق أساسا بأنظمة الحكم وكيفية إدارة علاقاتها بشعوبها، فإن المصلحة تقتضي تبني سياسة مشتركة، بدل أن يلجأ كل نظام إلى خطاب مزدوج، رفض في العلن وقبول على مضض في السر.

في هذا الإطار علينا أن نتساءل بوضوح: هل يمكن أن ترفض الأنظمة العربية ما يطرح عليها حاليا من موقع القوة والوصاية؟. وأين تلتقي مصلحة الأنظمة مع مصلحة شعوبها وأين يفترقان؟.

الدول العربية في ضيق شديد من الضغط الأميركي المتزايد عليها. وما المداولات الصعبة التي تجري منذ أسابيع للتوصل إلى رد مشترك خلال قمة تونس القادمة إلا دليل على ذلك. لقد أصبحت الرغبة الأميركية في تغيير الأوضاع العربية بشكل جذري أكثر وضوحا واندفاعا من أي وقت مضى. ففي البداية تصورت القيادات العربية أن التصريحات المعادية لها، التي صدرت عن إدارة الرئيس بوش بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر، كانت مجرد ردود فعل غاضبة وظرفية. ثم عندما اندلعت الحرب على العراق ظنت هذه الدول بأن الأمر سيقف عند حدود نظام صدام حسين، وأن وقوفها إلى جانب واشنطن في حربها على الإرهاب وعدم مساندتها للنظام العراقي، سيكونان عاملين كافيين لكي تتخلى إدارة بوش عن تهديداتها للمنطقة. لكن سرعان ما تبين أن توقعات الأنظمة العربية ليست في محلها، وأن ما حصل في أفغانستان والعراق ليس سوى جزء من مشروع استراتيجي أضخم بكثير.

خطة عربية من أربع نقاط

في ضوء ما سبق، وبعد الكشف عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» فكرت الأنظمة العربية في تغيير أسلوب الرد والمواجهة. واختارت لذلك أربعة وسائل:

- أولها: الإعلان صراحة عن رفض التغييرات المفروضة من الخارج، وهو ما أكدته بوضوح تصريحات مسئولين كبار مصريين وسعوديين وسوريين.

- ثانيا: الإسراع في بلورة نوع من المشروعات أو مشروع بديل للإصلاح يكون صادرا عن الدول العربية نفسها، مع الاستعداد للتعاون مع «الدول الصديقة» لتنفيذه، كما أشار إلى ذلك الرئيس حسني مبارك.

- ثالثا: العمل على اتخاذ موقف عربي مشترك يكون بمثابة رسالة موجهة مباشرة إلى الإدارة الأميركية تشعرها بأن سياستها الحالية ستواجه صعوبات، ليس فقط مع هذا النظام أو ذاك، ولكن مع جميع الأنظمة التي ترفض بشكل جماعي الأسلوب الأميركي في التعامل مع أوضاع المنطقة.

- رابعا: الاستفادة قدر الممكن من التباين الأوروبي الأميركي. لقد جاءت وجهة نظر الحكومة الفرنسية مدعمة للتحفظات العربية. ففي حديث أدلى به وزير الخارجية الفرنسي دوفيلبان لصحيفة «لو فيغارو» أكد فيه أن المبادرة الأميركية «تهمل الصراع العربي الإسرائيلي»، وأنها « جاءت من غير تشاور مسبق مع العرب»، إضافة إلى أنها تعمم الحلول ولا تأخذ بالاعتبار خصوصية كل وضع. ولخص موقف بلاده في قوله: إن قناعتنا هي انه يتعين الانطلاق من حاجات ومن توقعات (الشرق الأوسط)، وعدم السعي إلى فرض حلول جاهزة، وبالتالي من المهم ضمها إلى المشاورات في وقت مبكر في إطار شراكة حقيقية. وهو توجه دعمته ألمانيا وانخرطت فيه من خلال «مبادرتها» التي أعلنتها كرد على المبادرة الأميركية.

ويرتكز هذا الرفض العربي على أربعة أفكار رئيسية هي:

- أولا: حماية السيادة والتمسك بوحدة أراضي الدول العربية.

- ثانيا: اعتبار حل القضية الفلسطينية المدخل لإصلاح أوضاع المنطقة، وإنهاء حال الإحباط الجماعي الذي يؤدي إلى العنف والإرهاب وعدم الاستقرار، وهي المسألة التي تعمدت المبادرة الأميركية إسقاطها من المعادلة الإقليمية.

- ثالثا: إظهار الاستعداد لإحداث تغييرات في أسلوب إدارة الشأن السياسي، لكن مع المطالبة بشيء من الوقت واتباع أسلوب التدرج في الإصلاح، وذلك تجنبا للوقوع في الفوضى. وقد كان الرئيس مبارك واضحا في هذا الشأن عندما قال: «يجب ألا يتصور أحد أننا سنضغط على زر فتصل الحريات وإلا سيصبح الأمر فوضى وهذا هو الخطر على الشعوب».

- رابعا: الاستناد على «الخصوصية» التي تقتضي من وجهة نظر الحكومات العربية رفض النماذج الجاهزة للحكم الديمقراطي بحجة منافاتها لـ «التقاليد الدينية والقومية».

عوائق الخطة العربية ونواقصها

تلك هي أبرز ملامح التحرك التكتيكي العربي الرسمي عشية انعقاد القمة. وهو تحرك يعكس حال القلق الذي انتابت الأنظمة، بعد أن أصبح مصيرها مهددا لأول مرة بشكل جدي. وقد اتضح ذلك جليا مع المثال الليبي، حين قرر العقيد القذافي القيام بانقلاب جذري على نفسه وضد سياساته السابقة، وقال في آخر خطاب له انه غير مستعد ليقود شعبه إلى التهلكة، في إشارة منه إلى ما فعله صدام حسين عندما أصر على التصدي للولايات المتحدة.

هذه «الخطة» لم تحض بالإجماع، إذ عبر الطرف القطري عن موقف علني مختلف. لقد شق الخلاف طريقه داخل الخيمة العربية الرسمية المهددة بالاقتلاع، غير أن الأمر لم يصل إلى درجة الانقسام الحاد، إذ سيحاول القادة العرب التوصل إلى صيغة وفاقية لا تزيد من إضعاف موقفهم تجاه واشنطن.

السؤال بعد هذا الماراثون الدبلوماسي هو: هل ستقدر خطة من هذا القبيل على لجم الإرادة الأميركية، ودفعها للتراجع عن تنفيذ خطتها المتعلقة بإعادة ترتيب أوضاع العالمين العربي والإسلامي؟. للأسف كل المؤشرات تدل على أن التحرك العربي على رغم أهميته - جاء متأخرا جدا، وأن الأوضاع التي آلت إليها حال الأنظمة والدول العربية لا تمكنها من ضبط الثور الأميركي الهائج. فقائمة المطالب المقدمة في مجال الإصلاح مطالب حقيقية، ارتكزت على توصيف قام به خبراء عرب لا يشك في وطنيتهم وولائهم. الإصلاح اليوم هو دواء عاجل لجسم عربي أنهكته الأمراض والعلل بشكل لم يعد بالإمكان تأجيل معالجته.

صحيح أن أميركا تريد أن تفرض عدة تغييرات لتحقيق أهداف استراتيجية أملتها مصالحها القومية، لكن المفارقة ان عناصر كثيرة من قائمة الإصلاحات الواردة في خطة «الشرق الأوسط الكبير» تتقاطع مع مطالب الشعوب والقوى السياسية والنخب العربية التي أرهقها الاستبداد فترة طويلة، وتكاد تيأس من التسويف المستمر لكثير من لأنظمة العربية.

لا يختلف عربيان في أن عدم حل القضية الفلسطينية استنزف جهود المنطقة لفترة تزيد عن نصف قرن، لكن لا علاقة لذلك بتأجيل الديمقراطية والإصلاح السياسي. لقد استعملت فلسطين المنكوبة لتبرير الحكم المطلق، في حين أن الديمقراطية تعتبر في مقدمة الأسلحة التي ستمكن الشعوب العربية من إبلاغ صوتها وتقديم الدعم الضروري لحل هذه القضية المركزية.

صحيح أن للعرب خصوصيتهم، لكن من قال ان الهوية العربية والإسلامية تتناقض مع الديمقراطية أو الشورى الفعلية الملزمة، ولا تتماشى مع احترام حقوق الإنسان؟. إن هذا الإدعاء يشكل في حد ذاته مسا خطيرا بالإسلام والعروبة لأنهما تضررا كثيرا، ومنذ قرون بعيدة من الاستبداد. إنه قول مردود يراد به الزعم بأن المسلم والعربي مهيآن ثقافيا وربما «فطريا» لقبول الحكم المطلق. وهو أمر لا يقره المنطق ولن تؤيده القوى الديمقراطية في المنطقة.

صحيح أن للدول العربية سيادة لابد من حمايتها، لكن من قال إن الاحتكام إلى إرادة الشعوب، واحترام حقوق المواطن الأساسية يمكن أن يلحقا ضررا بالسيادة أو يضعفها. إنه خلافا لمثل هذه المزاعم، فإن الاستبداد في العراق هدد السيادة وضيعها، وأن تعزيز دولة القانون والحريات هو الذي يسمح بقيام تحالف حقيقي بين الأنظمة وشعوبها لحماية السيادة والثروة واستقلال القرار الوطني.

الخلاصة أن الأنظمة العربية كانت محقة عندما قررت أن يكون موضوع الإصلاح في مقدمة القضايا التي ستنظر فيها القمة. لكنها تخطأ كثيرا عندما تريد أن تحول المسألة إلى مجرد مناوشة دبلوماسية محدودة الأثر مع الولايات المتحدة الأميركية، لتبقي على الأوضاع الداخلية من دون مراجعات فعلية. إنها عندما تفعل ذلك، معرضة للخسارة على الصعيدين، محليا بفقدان السند الشعبي، وخارجيا إذ انها تعلم الأنظمة أكثر من أي طرف آخر أن الإدارة الأميركية ستواصل ممارسة ضغوط حقيقية عليها. أما الاعتماد على أوروبا في هذا الشأن فهو سوء تقدير لحقيقة الوضع الدولي، لأن أوروبا تريد فقط أن تحصل على أكثر المكاسب، وليست في الجوهر معارضة لإعادة هيكلة أوضاع «الرجل المريض» الملقب بالعالم العربي.

مبادرة مصرية

تتمثل الورقة التي لم تتوافر حتى الآن في صيغتها الكاملة في النقاط الاساسية الآتية:

(أ) تربط الوثيقة بين الإصلاح وبين شرط آخر هو «احترام سيادة الشعوب العربية والحفاظ على وحدتها الإقليمية وسلامة أراضيها».

(ب) وتقترح الوثيقة المصرية على الدول العربية تأكيد «عزمها على استمرار عمليات التحديث والإصلاح التي تضطلع بها المجتمعات العربية استجابة لرغبة وحاجات شعوبها». كما تؤكد «ترحيبها بالتعاون مع الدول الصديقة المستعدة للتفاعل مع تحركها الأصيل على أساس من الندية الكاملة وعدم محاولة فرض نموذج معين وتجنب ما يتعارض مع التوجهات المنبثقة من الثقافة الذاتية والتقاليد الدينية والقومية» للمجتمعات العربية.

وفي الإطار نفسه أصدر الرئيس المصري التصريح الآتي: في حين قال وزير خارجيته ما يأتي: «أمامنا تحدي تحديث مجتمعاتنا وتطويرها بإرادتنا الحرة، وفق ما تريده شعوبنا استجابة لمتطلبات الجمع بين التراث العتيد الذي قاد عملية التنوير والنهضة على مر العصور وساهم في إخراج العالم كله من الظلمات إلى النور وبين إحداث أفكار التطوير والإصلاح التي تتفق مع خصوصياتنا وثقافتنا ومصالحنا».

قبل أي تعليق، أود الإشارة هنا الى أمر أساسي: مهما كان تقييم هذه الوثيقة فإنها المؤشر الاهم على أن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي طرحته الإدارة الأميركية تم تلقيه من قبل حكام المنطقة بشكل سلبي جدا، بل يمكن القول ان البعض يعتبره كارثة حقيقية. إن ذلك أمر في غاية الاهمية، وهو يؤكد باختصار وضعا جديدا بدأ يبرز وخصوصا منذ هيمنة فريق المحافظين الجدد على السياسة الخارجية الأميركية وهو ان الحلف المقدس والطويل بين أنظمتنا العربية «المعتدلة» كما تسمى من قبل بيروقراطيي وزارة الخارجية الأميركية والادارة الأميركية يتجه نحو مرحلة جديدة، من قواعده الاساسية لن يتم فيها التعامل مع التحالف مع هذه الانظمة كأمر مقدس

العدد 557 - الإثنين 15 مارس 2004م الموافق 23 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً