العدد 557 - الإثنين 15 مارس 2004م الموافق 23 محرم 1425هـ

اللعبة السياسية تتغير

فرنسية وزيرة خارجية جورجيا

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

مثل أي شيء آخر بعد 11 سبتمبر/ أيلول يتفاجأ العالم بتغيير ليس شبه سلمي في جورجيا كالذي حصل قبل شهور بالإطاحة سلما بالرئيس السابق ادوارد شيفرنادزة على خلفية الفساد وعدم الإصلاح، ووصول ميخائيل ساكاشفيلي إلى الحكم في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، بل والإعلان أخيرا عن النية لتوزير السفيرة الفرنسية في تبليسي العاصمة الجورجية، كي تصبح وزيرة للخارجية الجورجية.

هذا الإعلان يعتبر فتحا جديدا لما تعارف عليه منذ قرون عن طبيعة عمل الدبلوماسية والعلاقة بين الدول، فقد اتبعت تلك القواعد بحذافيرها وبخطوات صارمة لا تقبل الجدل لمئات من السنين، إلى درجة أن سُن عدد من السنوات لأي سفير للبقاء في عاصمة أخرى، معادية أو صديقة لا يتعداه، حتى لا يتأقلم مع المجتمع الذي يعيش فيه، كما أصبح للعمل الدبلوماسي قواعد معروفة تتشابه إلى درجة يسهل أن يتنبأ بها البسطاء من الناس، تلك بالطبع قاعدة عامة يتفرع منها عدد من القواعد التي تسمى اليوم بالقواعد الدبلوماسية.

السفيرة الفرنسية السابقة التي تهيئ لان تكون وزيرة خارجية دولة مختلفة، لم تكن سفيرة عادية، بل كان من بعض مناصبها السابقة العمل في الأمانة العامة لوكالة الأمن القومي الفرنسية، وهي بمنزلة العقل الأمني الخارجي الذي تمر من خلاله كل الأسرار الأمينة على اتساعها للدولة الفرنسية وحلفائها، فهي مطلعة على أسرار الدولة التي كانت تخدمها، ومع ذلك فإن الرئيس الفرنسي جاك شيراك قد سمح لهذا التغيير أن يتم، وفي ذلك خطوة جريئة أخرى وغير مسبوقة.

أمامنا ليس فقط كسر لقواعد شبه ثابتة في التعامل الدولي، طبقت عليها اقسى أشكال الالتزام منذ أن عرفت العلاقات بين الدول، ولكن أيضا أن تقدم دولة على استخدام سفيرة لدولة أخرى، لتضعها على رأس اكبر مناصبها الدبلوماسية وتقبل الدولة الأخرى بذلك هو بحد ذاته فتح جديد وغير مسبوق وخيال سياسي متجدد.

اذكر أن احد الأصدقاء الدبلوماسيين قال ضاحكا انه أثناء تدريب دفعته قبل سنوات خلت لتأهيلهم للعمل كدبلوماسيين، أصر المدرب أن يحمل كل منهم قداحة سجائر، فلما احتج صاحبنا بأنه لا يدخن، قال له المدرب «انه من الأفضل أن تفعل ذلك لأنه من غير الدبلوماسية أن يخرج احدهم سيجارته ،ولا تسارع لإشعالها، حتى لو كنت غير مدخن!».

بالتأكيد كان ذلك المدرب ينقل حرفيا ما تعلمه منذ سنين عن أصول المهنة الدبلوماسية وكيف يتصرف الدبلوماسي، وهي قشور جوفاء ليس لها علاقة بمتطلبات اليوم.

لعل في الخبر غير المسبوق كثيرا من الدلائل التي تعطيها ليست جورجيا بإقدامها على استخدام السفيرة الفرنسية، بل فرنسا بسماحها بذلك.

من هذه الدروس أن (الولاء) للدولة من العاملين فيها لا يحكم عليه عن طريق كتابة التقارير السرية ومتابعة بعض القضايا التافهة والإشاعات المتداولة في الدولة المضيفة، فقد أصبحت مهمة الدبلوماسي اكبر من ذلك واخطر.

فالمعلومات تنتقل يوميا عبر وسائط كثيرة، منها الصحف والانترنت ووكالات الأنباء وغيرها من وسائط الإعلام التي تنقل الأخبار الكثيرة والكثيفة، كما أن الدبلوماسي ليس (عميلا سريا) كما يعتقد البعض، في البحث خلف المعلومات، فلم تعد هناك في الغالبية اليوم معلومات غير معروفة، لقد اختلف دور الدبلوماسي كي يصبح حامل مُثل عالمية منها المساعدة على تحقيق التنمية بمعناها الشامل لبلاده.

ونحن كعرب حين نتلقى مثل هذا الخبر لا يزال بعضنا يتحدث عن ( التغيير من الداخل أم من الخارج) ولا يزال بعضنا يتحدث عن ( إلقاء قوانين الطوارئ التي كبل بها المواطنون أم إبقاؤها) ولايزال بعضنا يختلف على هذا المنصب أو ذاك في الجامعة العربية إلى غير ذلك من القضايا (الكبرى) في نظر البعض، ان جاءت سيرة التعيينات للخدمة العامة، فإن كثيرين يبحثون عن الأقرب والأكثر (ولاء للشخص) لا للقضية الوطنية.

اتخاذ مثل هذا القرار من الجانبين الفرنسي والجورجي يعني أن العالم يتغير ويتغير بسرعة، وان القواعد حتى لو طال بقاؤها لقرون يمكن أن تتكسر وتصبح ملغاة في إطار الظروف المستجدة ومصالح الشعوب.

المؤسف أن بعض العرب أو كثيرا منهم لا يزال يحارب معارك الأمس الماضي ويعيد تكرار محاولة اختراع العجلة التي اخترعها العالم منذ قرون في كل أو معظم مناحي الحياة.

التفكير في غير المألوف هي القاعدة الأساس التي يمكن استخراجها من الحدث الجورجي - الفرنسي، وربما يأتي يوم لا نحتاج إلى مواطن يكون سفيرا لدولة في بلد آخر يكفي أن نثق في ضوء التغيرات الحادثة في مواطن صالح من ذلك البلد كي يكون سفيرا ويقوم بمهماته على خير وجه.

من الدروس التي يمكن استخلاصها أيضا القاعدة التي تقول ان مصلحة البلاد والمجتمع هي التي تقرر شروط ومواصفات الموظف العام، وما يستطيع أن يحققه لبلده بصرف النظر عن علاقات القرابة السائدة من جهة، أو ما تقوله الأضابير والملفات عنه من جهة أخرى، فوزيرة الخارجية الجورجية الجديدة ( الفرنسية) يمكن أن تسهل، كما لا يستطيع غيرها، انضمام جورجيا أولا لحلف الأطلسي، والذي كانت تسعى إليها منذ فترة، وربما ثانيا تسهيل ولوجها إلى السوق الأوروبية المشتركة، وفي الخطوتين مصالح كبرى للشعب الجورجي، الذي تمكنه مثل هذه الخطوات من الخروج نهائيا من فلك الدولة الكبرى القريبة وهي روسيا، التي تحمل الكثير من مخلفات الإمبراطورية السوفياتية تجاه جورجيا والدول الصغيرة المحيطة.

وان تحقق ذلك فإنه يعني فتحا لهذا البلد الآسيوي على صُعدٍ كثيرة وبالتالي تحقيق مصالح مرسلة لشعبها.

ما يمكن الوثوق منه هو أن المسئولية السياسية اليوم في عالمنا سريعة التغيير، تحتاج أول ما تحتاج، إلى خيال خصب وشجاعة أدبية لاستخدام الوسائل المتاحة للحفاظ أولا على المصالح الوطنية، وثانيا على توسيعها.

ولو قارنّا ذلك بما يحدث عندنا في العالم العربي، لوجدنا أن البقاء في المكان هو النصيحة الأفضل التي يقبلها متخذ القرار بكل ترحاب، في الوقت الذي يتطلب العصر التفاعل مع المتغيرات.

اللعبة السياسية في العالم تتغير إذا أمام أعيننا، فأين منها نحن العرب؟ إذ مازلنا نختلف على ابسط الأمور مثل ما حدث في اجتماع الجامعة العربية الأخير، ذلك هو السؤال المركزي الذي يحتاج إلى إجابة، لا تتسم بالخيال فقط، ولكن بالشجاعة الأدبية أيضا

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 557 - الإثنين 15 مارس 2004م الموافق 23 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً