العدد 556 - الأحد 14 مارس 2004م الموافق 22 محرم 1425هـ

وماذا بعد أن نرفض الإصلاح من الخارج؟

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

باستثناء مبادرتي مصر والأردن للإصلاح الديمقراطي، المقدمتين إلى القمة العربية المقبلة في تونس، فإن هجوم المبادرات الأجنبية - الأوروبية الأميركية - مازال يتدفق علينا فيلقا بعد فيلق، وكأن حرب الديمقراطية بدأت!

ومنذ سنوات ونحن ننبه بالقول الهادئ أحيانا، وبالصراخ العالي أحيانا أخرى، إلى ضرورة إجراء إصلاحات جوهرية في بنية النظم الحاكمة في بلادنا، ونطالب بتطوير وتحديث هياكل مجتمعاتنا بعدما أصابها من وهن وتخلف.

ولأن أحدا لم يقرأ ولم يسمع، ولأن الصمت والتجاهل والازدراء كان نصيب كل رأي يأتي من خارج الدوائر الضيقة المتحكمة، فقد جاءت الآن لحظة الحقيقة بانقضاض المطارق الأجنبية تدق الرؤوس النائمة أو المتجاهلة، وتطالب بفرض إصلاحات بمحتويات أميركية وألوان أوروبية.

ولذلك فإن القمة العربية الوشيكة في تونس مواجهة بهجوم شرس من مشروعات الإصلاح ومبادرات التحديث الديمقراطي، المنهمرة عبر البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وفي هذه المرة لن تستطيع القمة الهروب منها لا إلى الأمام ولا إلى الخلف، وخصوصا أن المطالب الشعبية بالإصلاح الديمقراطي لا تقل ضراوة عن تلك الأجنبية، ومن ثم فالتعامل مع هذه وتلك ضرورة، ولن يكون كافيا ولا مرضيا لأحد الاكتفاء بالرد السلبي المعهود، ولا بالرفض لمجرد معارضة وصفات الإصلاح لأنها أجنبية، ولا يكفي أيضا أن نكرر مقولة إن الديمقراطية يجب أن تنبع من الداخل، وان الإصلاح يجب أن يتوافق مع ثقافة وتقاليد مجتمعاتنا، وهذا في الأصل صحيح فنحن منذ البداية تبنينا هذا ودعونا إليه في ظرفه وزمانه وبشروطه...

لكن الرفض وفقط ليس هو الحل لأزماتنا ومشكلاتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي تراكمت بالإهمال ومن دون حلول على مدى الدهور والعهود، لم يعد مقبولا الهروب إلى الأمام والتهرب من الالتزام، أمام شعوبنا وأمام قوى الخارج الضاغطة، أو الادعاء بأن أهل مكة - وحدهم - أدرى بشعابها، أو أننا نطبق الإصلاح بحسب هوانا وليس لأحد حق التدخل في شئوننا... لم يعد ذلك مقبولا ولا ممكنا لأن عالم اليوم تداخلت شئونه واختلطت شجونه وتعقدت علاقاته، بفضل سرعة التقدم وتصاعد روح الهيمنة وانسياب المعلومات وتزاوج الأفكار والثقافات، حتى ان نظرية سيادة الدول واستقلالها كحق أساسي، تتعرض للانتهاك والاختراق، من دون مراعاة حتى للقوانين الدولية!

ولذلك أحسب أن أمامنا، حكاما ومحكومين، ضرورة الإجابة على أكثر من سؤال صعب في وجه التحديات الملقاة على أكتافنا، وبداية الأسئلة الصعبة تكمن في السؤال المدهش والمحير، لماذا لا نبادر، ولماذا نبدأ دائما متأخرين عن الوقت الصحيح؟ وخذ عندك يا عزيزي نماذج متتالية من هذه الأسئلة الصعبة المطروحة علينا، مقدمة لإجراء الإصلاح الحقيقي.

أولا: لماذا تأخرنا وتخلفنا فوصل حالنا إلى ما نحن عليه من:

(1) شيوع ثقافة الفساد والاستبداد في كل مجال.

(2) اتساع مساحة الفقر وتدني الدخل القومي في دول كبيرة مثل مصر والمغرب والعراق، بل في معظم الدول العربية، علما بأن هذا الدخل القومي يقوم في 70 في المئة منه على تصدير النفط والمواد الخام من دون إنتاج حقيقي، ما أدى إلى تدني دخل الفرد إلى متوسط بين ألف دولار وثلاثة آلاف سنويا في معظم دولنا، بينما يصل في «إسرائيل» إلى 18 ألف دولار سنويا.

(3) استمرار ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية وهي في المتوسط العام 45 في المئة، فضلا عن الأمية الثقافية والتكنولوجية الحديثة.

(4) ارتفاع نسبة البطالة إلى ما بين 15 في المئة في الحد الأدنى وتصل إلى 30 في المئة ارتفاعا.

(5) تهاوي إسهامنا العالمي في الثقافة والعلوم والإعلام والتكنولوجيا.

(6) ثم لماذا تحوّلنا من مجتمعات متسامحة متعايشة مع نفسها ومع الآخرين، إلى مجتمعات متوترة، أصبحت متهمة بإنتاج التطرف والتعصب والعنف والإرهاب؟!

ثانيا: كيف نواجه ذلك كله، وماذا نفعل وماذا نقدم من برامج الإصلاح الشامل بجوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ثم ما هي أولوياتنا بالضبط؟ هل يكفينا ما ندعيه من إبراء الذمة، بشأن إجراء إصلاحات جزئية وشكلية مخادعة أو مراوغة... هل نظل نلعب اللعبة نفسها بالتركيز على إصلاحات اقتصادية مبتسرة - تلبية لمطالب المؤسسات الدولية - على حساب الإصلاحات السياسية والاجتماعية الشاملة!

هل سياسات الخصخصة وإطلاق حرية القطاع الخاص وآليات الصحة، بالنمط السائد، تحقق تنمية إنسانية شاملة، ترتفع بمعدلات التنمية من وضعها الراهن، عند 2 في المئة فقط، إلى 6 أو 7 في المئة في المتوسط، وليس إلى 13 في المئة كما فعلت الصين بالأمس، أو حتى كما فعلت سنغافورة وماليزيا وتايلند ناهيك عن كوريا!

هل ننام على الوهم الدعائي القائل إن الحريات في بلادنا كاملة، فإن كان الادعاء صحيحا فلماذا لا نطلق سراح كل الحريات من أسرها، من حرية تكوين الأحزاب إلى حرية الرأي والتعبير والاعتقاد والتظاهر، ومن حرية ونظافة الانتخابات في كل المستويات إلى حرية تداول السلطة؟

ألا يجب أن نعيد بكثير من الروية والحكمة، التفكير في الضوابط التقليدية الحاكمة المتحكمة، في تركيبات النظم السياسية، القائمة على الفردية واحتكار السلطة والثروة والنفوذ ومراكز القوى والقوانين الاستثنائية؟ ثم ألا يجب أن نشرب الدواء الناجع ولو كان مرا، باحترام إرادة الشعوب وقدرتها على المشاركة في صنع القرار وحريتها في الاختيار؟

ثالثا: كيف نعيد صوغ علاقاتنا الإقليمية والدولية، في ظل عصر جديد بمفاهيم جديدة، ومتغيرات مذهلة في السياسات الكونية، التي بات يحكمها قطب أوحد أشرس، بعد أن قصرت رؤيتنا وعميت رؤانا ولم نقرأ حركة تطور العالم كما يجب، حتى فوجئنا بأحذية الاستعمار الغليظة تدق رؤوسنا عائدة مسيطرة؟!

وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل لايزال العرب على موقف موحد وواضح تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، أم أن سياسات التساهل أفضت إلى التجاهل؟ وبالتوازي هل للعرب - فرادى وجماعات - مواقف واضحة معلنة تجاه العلاقات مع أميركا وأوروبا، أم أن التلهف على طلب الرضا السامي صار هو الهدف الفردي، ثم هل نظل نتجاهل دوائر صداقاتنا التقليدية مع دول الجوار القريبة والبعيدة، من الصين شرقا إلى البرازيل غربا، أم نفكر في إعادة الصوغ؟

طبعا لن أتكلم اليوم عن أوضاع العروبة والقومية والثقافة والمصالح المشتركة، لا كفرا بها كما كفر كثيرون، ولكن لأن لها مواضع أخرى قادمة، تستحق فيها ومعها صراحة جارحة باتت مطلوبة!

رابعا: يطرح علينا كل ما سبق من أسئلة صعبة، ما بقي من أسئلة أصعب، وأهمها: هل لدينا رؤية واضحة، وخيال سياسي وعقل مستكشف وجريء، يفكر ويبتكر ويخطط كما يفعل المتقدمون؟

والأهم: هل لدينا إرادة سياسية حقيقية ومستقلة، مع قدرة ورغبة فعلية في إحداث هذه التغييرات الجذرية في تفكيرنا وسلوكنا، أم أن المسألة قاصرة على تنويعات لحنية هامشية، حتى ينتهي صخب حفل الضغوط والمبادرات، ثم يعود كل حجر إلى سكنه وسكونه!

نعرف ونثق أن مجرد التفكير في طرح الأسئلة الصعبة هذه، ومن ثم التفكير في الإجابة عنها بصراحة، سباحة ضد التيار في بحر هائج، ولكن لا مفر الآن حتى نلحق بحركة التطور في التاريخ الحديث، بقدر ما نعرف ونثق أن العمل الجدي للإصلاح الجدي يتطلب تحمل الكلفة الباهظة معنويا وماديا، ويستدعي التضحية الثقيلة، وفق حساب الأرباح والخسائر... نعم لا مفر ولا مهرب.

الآن...

ندرك أن وقت القمة محدود أمام الزعماء والرؤساء، وبالتالي فليس أمامهم فرصة عملية للإجابة على كل الأسئلة الصعبة، وندرك أن بعضهم سيتقدم من جانبه بمبادرات للإصلاح قد تلقى القبول أو الرفض أو المزج بين هذا وذاك، ولذلك فإن كلا منا في مشارق أرض العرب ومغاربها مطالب بالبحث عن الإجابة نيابة عن قائده ورئيسه وتوفيرا لجهده ووقته.

وفوق ذلك ندرك أن هناك مؤسسات ومكاتب استشارية وخبرات سياسية وفنية، مهمتها التفكير والتخطيط وطرح المبادرات والبدائل واقتراح الحلول والإجابات أمام الرؤساء والقادة، كما يحدث في النظم الديمقراطية والمستنيرة، فأين دورها في حياتنا، ولماذا لا نلمس دورا لها حتى الآن؟

فإن كان ذلك كذلك، وهو على الأرجح صحيح، فلماذا لا نبدأ الإصلاح الوطني الحقيقي، بممارسة فضيلة الحوار والاستماع إلى المشورة الواسعة داخل الوطن أولا، قبل أن تلهب ظهورنا على الدوام مشورة الأجنبي وخبراته المستوردة، فنلهث وراءها طاعة وتنفيذا، بعدما صار ولعنا بكل أجنبي مستورد قانونا محترما دون غيره، من إصلاح أرصفة الشوارع إلى إصلاح هياكل الحكم؟!

وربما يكون مفيدا في هذا السياق الداعي إلى ممارسة فضيلة الحوار، أن نتحاور بأصوات مسموعة من دون صخب وعصبية وعراك، بشأن قضية «الإصلاح من الداخل أو من الخارج»، بعدما اختلطت الأمور في كثير من الناس فزاغت الأبصار والبصائر، إلى درجة مقلقة فعلا... ومن نماذج ذلك رسائل تلقيتها حديثا، يتساءل بعضها ببراءة ورغبة في الإيضاح، ويتخابث بعضها الآخر رغبة في الإيقاع في كمائن شريرة!

والسؤال المحوري يقول: لماذا تعارضون المشروع الأميركي لفرض الإصلاح الديمقراطي، ألم تفشلوا في فرضه على حكامكم، وهل لمجرد أن الإصلاح أميركي ترفضون إدخال الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهل رفضكم هذا يؤدي إلى نمو الديمقراطية حقا، أم يكرّس بقاء ثقافة الفساد والاستبداد؟

وهاكم قولي للمرة الألف في هذه المعادلة الملتبسة والمغلوطة، فكما أوضحت من قبل، فأنا مع الإصلاح الديمقراطي الوطني «بيدنا لا بيد أميركا» النابع من فكرنا وحاجتنا الوطنية وكفاحنا الطويل، ومع الاستفادة القصوى - في الوقت نفسه - من المناخ الدولي الدافع لرياح الديمقراطية بالإقناع وليس بالفرض والروع والإكراه.

وبالدرجة نفسها أنا ضد الفساد والاستبداد في الداخل، وضد التدخل الأجنبي المقبل من الخارج، ومن ثم لا يجب استغلال معارضتنا لفرض الإصلاح من جانب القوى الأجنبية، للاستمرار في الأوضاع الراهنة ولترسيخ ثقافة الفساد والاستبداد.

الأمر واضح ولا تناقض فيه ولا

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 556 - الأحد 14 مارس 2004م الموافق 22 محرم 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً