في هذه الصورة الكبرى، يمكن لنا فهم مشروع الشرق الاوسط الكبير، فماذا عنه؟
- في ظلّ مفهوم العولمة، وإمكانات القوّة العظمى (الولايات المتحدة) للتدخّل اينما تريد، ومن دون استئذان أحد، يمكن لنا ان نستنتج ان الفارق بين البُعدين، الاستراتيجي والتكتيكي هو إلى انحسار، وحتى إلى زوال. هذا على الاقلّ في الوعي الاميركي، نظرا لما يملك من إمكانات. وظهر هذا الامر جليّا، عندما مانعت تركيا استعمال اراضيها من قبل القوات الاميركية، استطاعت اميركا نقل قواتها إلى المسرح الكويتي، وذلك من دون تعديل مهم، او تأخير في تنفيذ المهمة الرئيسية. ولأن اميركا ومصالحها تغطّي كل الكرة الارضيّة، فإن الابعاد التي ذكرناها (استراتيجي + عملاني + تكتيكي) هي تقريبا غير موجودة. فاميركا تتدخّل على رغم عظمتها لضرب مجموعة من الارهابيين في جزيرة معزولة في الفلبين. كذلك الامر تدرس «البنتاغون» خطر ارتفاع حرارة الارض (Global Warming) على الامن القومي للولايات المتحدة، وكيف سيغيّر هذا الحدث الخرائط الجيو- استراتيجيّة (صدرت دراسة في هذا الصدد عن البنتاغون).
- بعد 11 سبتمبر/ ايلول، دخلت اميركا الحرب على الارهاب وخاضت حربين، في افغانستان والعراق. واعتبر المحللون، او أطلقوا على هذه المرحلة صفة الماكرو (Macro) أي المقاربة الكبرى للمنطقة، والتنفيذ العسكري لتثبيت موطئ القدم على الارض. وفعلا دخلت اميركا الشرق الاوسط القديم، وثبّتت حضورها حتى ولو لم يكن العالم راضيا عن هذا السلوك.
- وبعد الحروب الكبرى المحدودة في افغانستان والعراق، بدأت اميركا خوض الحروب الصغيرة جدا (Micro -Wars). وكانت هذه الحروب ذكرت ايضا في استراتيجيّة الامن القومي الاميركية (NSS). وبهدف الانتقال من صورة الماكرو، إلى صورة الميكرو، أطلقت اميركا مشروع «الشرق الاوسط الكبير». ويبدو ان الاسم كبير، لكن المقصود هو محاولة الدخول إلى العقل والوعي العربيين، لتغييرهما من الداخل، أي من الميكرو. ويعتقد الاميركيون، ان الحرب تبدأ في عقول الرجال، ولمنع وقوع الحرب، يجب البدء بالعمل من هناك، أي من عقول هؤلاء الرجال. ومقارنة بذلك، يجب العمل على العقل العربي، لمنعه من استعمال الارهاب لتحقيق الاهداف السياسية. وإن العمل على العقل العربي لابعاده عن الارهاب، يكون عبر التنمية البشريّة، الاقتصاد، وبالتالي التعليم وتغيير المناهج الدراسيّة التي يعتبرها الاميركيون مسئولة عن تسويق الكره للغرب. ويبدو المثال الواضح جدّا في هذا الاطار، ما انتجته مدارس طالبان في افغانستان.
- إن إطلاق هذا المشروع، ليس بجديد. فالعالم العربي، أو «الشرق الاوسط الكبير» باستثناء المغرب العربي تقريبا، يقعان ضمن صلاحيّة قيادة المنطقة الوسطى (CentCom)، التي هي بامرة الجنرال من اصل لبناني، جون ابي زيد.
- وكما قلنا، يتمثّل الخوف العربي من هذا المشروع، في انه طُرح في هذا الوقت، إذ العرب في الحضيض. كذلك الامر، أن طرح مشروع مماثل سيؤدّي إلى إنتاج نظام امني اقليمي جديد. والنظام الامني الاقليمي الجديد، يستلزم إعادة رسم التحالفات، وتوصيف الاعداء - الاعداء، والاصدقاء - الاصدقاء، والدول المابين - بين. وهنا مكمن الخطر على بعض الانظمة العربية، لان الصديق - الصديق، هو معروف أصلا، والمتمثّل بكل من: «إسرائيل» وبامتياز، تركيّا والهند. اما الدول العربية المؤثّرة، فهي في خانة الصديق، والصديق فقط وبخجل، كمصر، السعودية، السودان وغيرها. والدول العربيّة الاخرى والمُصنفة صديقة - صديقة، فهي غير مؤثرة على صعيد التأثير في رسم صورة المنطقة، وفي عمليّة اتّخاذ القرار، إذ الصديق - الصديق لاميركا، ليس عربيّا. ومن يدري ما قد يحصل فيما لو دخلت إيران المعسكر الاميركي لاحقا؟ أما الصديق المسلم لاميركا وغير العربي، اي باكستان، فهو في خانة الاتهام لأنه باع التكنولوجيا النووية، ومن يدري ما هو عقابه، او ثمن أخطائه هذا إذا ما عاند؟ إذا ستشهد المنطقة العودة إلى سياسة المحاور. لكن هذا السياسة خطيرة، وغير مسبوقة في المنطقة، لان اميركا تُعتبر الآن، اللاعب الاساسي والوحيد، وذلك بعكس ما كان سائدا ابان «الحرب الباردة»، كحلف بغداد مثلا. وفي ظلّ محاولة إعادة رسم المنظومة الامنيّة في المنطقة، ورسم التحالفات الجديدة، وفي ظلّ إعادة توصيف الاعداء والاصدقاء، وفي ظل ضعف عربي لم يسبق له مثيل، وتفرّد اميركي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشريّة، فإن كل شيء قد يُطرح حاليا للمنطقة، ومن قبل الولايات المتحدة تحديدا، هو امر مشكوك في صحّة نواياه الطيّبة، ومرفوض حتى من قبل العتاة الذين يعشقون الديمقراطيّة، ويكرهون انظمتهم. يضاف إلى هذا، خوف الانظمة العربية المناوئة للاستراتيجيّة الاميركيّة، من محاولة ضربها مباشرة عبر العسكر الاميركي، أو عبر تكليف اي حليف لاميركا، وخصوصا «إسرائيل». فكيف يمكن لهذه الانظمة، وبحسب الوزير اللبناني السابق غسان سلامة خلال محاضرة ألقاها في قطر، أن تقبل هذه الدول المناوئة مساعدة وتسويق المشروع الاميركي، عندما يقول لها الاميركيون، إنك على لائحة الاهداف المقبلة؟
- إذا اميركا في المنطقة، تعصر البعض، تحتوي البعض الآخر، وتضرب من يعاندها مباشرة او عبر وسيط ما، حال سورية ومخيم عين الصاحب. وان استثمارها، أي اميركا في المنطقة قد وصل إلى سعر مرتفع جدّا، لذلك ليس من السهل ان تنسحب اميركا، كما فعلت في فيتنام، فالانسحاب من العراق، قد يعني سقوط النسر الاميركي إلى غير رجعة. وقد يقول البعض، ماذا لو وصل الديموقراطيون إلى الحكم؟ وقد يردّ البعض، ان الدول العظمى لا تبدّل استراتيجياتها كما تبدّل ثيابها، وان الخطاب الانتخابي الرئاسي الاميركي يدور مثلا حول كيفية إدارة الحرب، وبالكاد نسمع احدا من المترشحين يبشّر بالانسحاب الاميركي من المنطقة في حال انتخابه. وهذا بالفعل ما يؤكّد ما قلناه آنفا.
لماذا يقوم المشروع على التعليم، إدارة الاعمال، المرأة؟
- في كتابه الاخير مع دفيد فروم، يقول ريتشارد بيرل انه يقدّم للادارة الاميركية وعبر الكتاب، خريطة طريق لضرب الارهاب. تقوم هذه الخريطة على الاسس الآتية:
1- حماية امن الداخل الاميركي، حتى ولو تضايق المسلمون الاميركيون.
2- ضرب الدول التي ترعى وتساعد الارهاب.
3- واخيرا وليس آخرا، وهذا ما يهمنا هنا، ضرب الارهاب في عقول المسلمين والعرب. وإن ضرب الارهاب في العقول، من المفروض ان يقوم على التناوب في الاستعمال بين العصا والجذرة. العصا لمن عصا. والجزرة عبر إظهار اهميّة التغيير، الازدهار، التعليم والمساهمة في التطوّر البشري، وحتى التنعم بالديمقراطيّة والحريّات.
اعتمد الاميركيون لاطلاق مشروع الشرق الاوسط، على «تقرير التنمية البشرية العربية للعام 2002». ويعني هذا الامر، ان اميركا تدين العرب بقلم ولسان العرب. فقد وردت في هذا التقرير ارقام مذهلة ومخيفة منها:
- إن مجموع الدخل القومي لكل الدول العربية يساوي الدخل القومي لاسبانيا فقط.
-40 في المئة من العرب البالغين اميون، وثلثا العدد من النساء.
- 25 مليون عاطل عن العمل في العام 2010.
- 5,3 في المئة من النساء تشغل المقاعد البرلمانيّة.
- 51 في المئة من الشبان العرب عبروا عن رغبتهم في الهجرة.
- تصدّر العرب لائحة من يؤيّد الديموقراطيّة كأفضل طريقة للحكم.
- 6,1 في المئة فقط من السكان يستعملون الانترنت.
- إن ثلث سكان المنطقة يعيشون على اقل من 2 دولار اميركي في اليوم. والمطلوب هو معدّل نمو اقتصادي يقارب الـ 6 في المئة.
هذا غيض من فيض، والمطلوب بحسب التقرير هو العمل على الآتي:
تشجيع الديمقراطيّة والحكم الصالح، بناء مجتمع معرفي، توسيع الفرص الاقتصاديّة، تدريب النساء، الانتخابات الحرّة، مكافحة الفساد، وتشجيع الشفافيّة، إعلام حرّ ومستقلّ عن الحكومات، تشجيع المجتمع المدني، وإعادة انتاج الطبقات الوسطى، التي من دونها لا تقوم الديمقراطيّة، وأخيرا تحسين وتعديل المناهج الدراسيّة، وتشجيع الابحاث والدراسات وتخصيص الاموال اللازمة لها....الخ.
بالإضافة إلى تقرير «التنمية البشريّة العربيّة للعام 2002» صدر ايضا تقرير آخر عن «المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم»، كانت الجامعة العربيّة قد كلّفت المنظّمة إعداده. أيضا وأيضا، هاجم التقرير الانظمة المتسلّطة، معتبرا انها توظّف الدين في خدمة السياسة، واعتبر التقرير ان هناك تناقضا بين ما يُدرّس، وبين المعاش، كذلك، اعتبر التقرير انه لا وجود للمجتمع المدني في العالم العربي، وطالب التقرير بتدريس الآيات القرآنيّة الكريمة، التي تساعد فقط على التوحيد بين الافراد. وإذا أريد للدين ان يكون خادما للتربية على حقوق الانسان، فلابد ان يكون خادما لحريّة الرأي والمعتقد وان تقدّم فيه الآيات التي تجمع ولا تفرّق. إذا تقرير آخر، مصدره عربي من قبل جهّة رسميّة هي الجامعة العربيّة، يدين الوضع المتردّي في المجتمعات العربيّة.
تعتبر الادارة الاميركيّة أنه وفي حال نجاح هذا المشروع، الذي يستند إلى المبادئ الديمقراطيّة، وإلى الحفاظ على حقوق الانسان. وفي حال تعدّلت المناهج الدراسيّة بشكل ان لا تنتج أجيالا من الشباب العربي يكره «العم سام». فإن المنطقة مقبلة على مرحلة ازدهار باهرة. ويساعد نجاح مشروع «الشرق الاوسط الكبير»، تنفيذ الاستراتيجيّة الاميركية الكبرى، لكن الاكيد ان طلائع نتائج هذا النجاح، في حال التطبيق السليم، تستلزم اكثر من عقد من الزمن كي تعطي ثمارها، لكن الخطر على المشروع الاميركي، في ان الديمقراطيّة التي تريد نشرها اميركا، قد تعمل ضد مصالحها في وقت من الاوقات. وحصل هذا فعلا مع تركيا عندما صوّت البرلمان التركي ضدّ دخول القوات الاميركية إلى الاراضي التركيّة.
ما هو موقف الدول الاوروبيّة من هذا المشروع؟
- من الاكيد ان الدول الاوروبيّة تريد المشاركة في المشروع. فالغياب عنه، قد يعني غياب اوروبا عن اهم منطقة نفوذ لها، أي العالم العربي. هذا مع العلم ان اوروبا حاليا، هي ذات تأثير قليل وقليل جدّا في المنطقة العربيّة وخصوصا بعد الحرب على العراق، التي قسّمت العالم ما بين مع وضدّ المشروع الاميركي. وقد يقع الخلاف بين اميركا واوروبا، في نوع واهميّة الدور الذي ستعطيه اميركا للقارة العجوز. هذا بالنسبة إلى اوروبا، اما بالنسبة للقوى الكبرى الاخرى، فإن الدور الياباني في السماوة (العراق) قد يكون اول مؤشّر لتوزيع الادوار من قبل اميركا على الحلفاء. هذا عدا عن السماح لليابان بالاستثمار في ايران في حقول النفط، الامر الذي قد يدلّ أيضا على تحوّل جذري في العلاقة بين ايران واميركا. وان الاثنين، ينتظران الوقت المناسب لاعلان عودة المياه إلى مجاريها، لذلك لابد من الانتظار قليلا لمعرفة كيفيّة توزيع الادوار، لكن الاكيد ان اميركا ماضية في مشروعها، سواء قبلت او رفضت اوروبا. وكنا عايشنا سابقا هذا الوضع، عندما ذهبت اميركا إلى الحرب رغما عن انف مجلس الامن، واوروبا.
هل سيؤدّي المشروع في حال تطبيقه إلى فقدان المنطقة قيمها وحضارتها؟
- في تقرير نشرته مجلّة «فورين بوليسي» حول مؤشّر العولمة للدول نلاحظ الامور الآتية:
- بين 62 دولة، احتلّت ايرلندا المركز الاول في العولمة كدولة، سنغافورة المركز الثاني، الولايات المتحدة المركز 7، بريطانيا الـ 12، فرنسا الـ 15، المانيا ال 18.
- احتلت تونس المركز 35، السعوديّة 41، المغرب 47 ومصر المركز 60 (اربع دول عربية فقط).
- بينّت التقارير ان اكثر الدول عولمة، إيرلندا هي اكثر الدول ممارسة لشعائرها الدينيّة.
- أظهر التقرير ان معدّل الوفيّات عن الولادة، هو الاقلّ عند الدول الاكثر عولمة.
- وأخيرا وليس آخرا، بين التقرير ان للمرأة الدور الاهم في الدول التي تحتلّ مركز الصدارة في ترتيب العولمة.
كيف سيتصرّف العرب تجاه المشروع الاميركي؟
- صدرت الكثير من التصريحات العربية التي استنكرت فرض المشروع من الخارج. كان آخرها تصريح الرئيس المصري، والملك فهد بن عبدالعزيز. ويقول البعض، ان القمّة العربيّة التي ستعقد في تونس، قد تعالج الموضوع، وتقترح سلوكا معينا، او موقفا تجاهه، لكنه لابد من سرد بعض الملاحظات على القمّة وما ننتظره منها:
- أصبحت القمم العربيّة كقمم إصدار التوصيات فقط، اما القرار الفعلي فهو في مكان آخر.
- إن الكثير من الدول العربيّة الاعضاء، بدأت أصلا تنفيذ المشروع الاميركي، على الاقلّ في بُعد الاصلاحات وفي مجال التعليم والممارسة الديموقراطيّة (السعوديّة + قطر + البحرين +الكويت... الخ).
- إذا قرّر العرب من خلال القمّة معارضة المشروع، يبقى الامر في التنفيذ. فنصفهم، أو أكثر من نصف الدول العربيّة، هو اصلا في المعسكر الاميركي، والبعض منهم هو مع صلح ما مع «إسرائيل». لذلك لا يجب علينا توقّع قرارات مهمّة في هذا المجال من الاجتماع المقبل للجامعة العربيّة.
في الختام، عندما اتى الغرب كمستعمر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط السلطنة العثمانيّة، فرض على المنطقة نظاما سياسيّا جديدا عُرف بالدولة - الامّة Nation-State، وهو مفهوم غربي كان ولايزال تقريبا غريبا عن تاريخنا في المنطقة، وعن تاريخ وعينا وفكرنا السياسي. لم يكن العالم العربي مهيّئا عندها لتقبّل هذا الفرض. هذا في الوقت الذي كان الغرب قد عايش واختبر هذا النظام لاكثر من 500 سنة.
بعد 50 سنة من التطبيق العربي لهذا المفهوم، تردّى الوضع العربي اكثر فأكثر وبتنا في قعر اللوائح التي تصنّف دول العالم بين متقدّمة ومتأخّرة. بعد 11 سبتمبر/ أيلول، يأتي الغرب نفسه بحلة أميركية الآن، ليفرض نظاما جديدا، هو «الشرق الاوسط الكبير» من ضمن مفهوم العولمة، والعرب ايضا غير مهيّئين له. ونسأل هنا، هل نسير بالمشروع، او نعانده ونقاومه؟ وإذا قرّرنا الممانعة، فكيف وبمن؟ ففي المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، قاومنا مفهوم الدولة - الامة، لاننا اردنا الوحدة، لكننا عدنا وسرنا به مرغمين. وبعد ان سرنا به مرغمين، رحنا نتشبّث به، ونقاتل بعضنا بعضا للحفاظ على الحدود الفاصلة بين الامة العربية. وأصبحت الدولة - الامة، مطلبنا بامتياز، بعد ان كانت مرفوضة. فماذا يحمل لنا المستقبل تجاه المشروع الجديد؟ فعلى الاقلّ يمكن للدول العربيّة، مجتمعة او فرادة، ان تضرب اميركا ضربة استباقيّة Pre-emptive، فتعمد إلى تغيير سلوكها الشاذ الذي قتل الروح والابداع العربيين، وتقود هي مشروع التنمية في العالم العربي. فهل هذا ممكن؟ طبعا، فالقرار سياسي بامتياز، والمطلوب قيادات تاريخيّة، فأين هي؟ اللهم نجِّ الشعب العربي
العدد 552 - الأربعاء 10 مارس 2004م الموافق 18 محرم 1425هـ